Atwasat

سياحةٌ ليبية.. بين الحَسَنِ والأقلِّ حُسناً

نور الدين السيد الثلثي الإثنين 02 سبتمبر 2019, 02:55 مساء
نور الدين السيد الثلثي

في ربوع الطبيعة والتاريخ
رحلة استجمامٍ، تواصلٍ مع أقارب وأصدقاء، واستدعاءٍ للمحفوظ بذاكرة بعيدة، أخذتني إلى بنغازي ومنها إلى قورينا وأبولونيا وراس الهلال والأثرون ووادي مرقص ودرنة ووادي الخبطة. تجدّدتْ خلالها المتعة بسحر الطبيعة وشواهد التاريخ. 

الأمن والاطمئنان على السلامة الشخصية لم تكونا في أي وقت محلَّ قلقٍ طيلة الإقامة في بنغازي ودرنة والسّير عبر الجبل والساحل. صاحَبتنا زرقة البحر وصفاء السماء، وفاكهة الجبل من تينٍ وتين شوكي وعنب وخوخ وتفاح، وغمرنا الكرَم العربي الصادق حيثما اتجهنا. 

كانت قورينا (شحات) والجبل الأخضر في تنافسٍ على جذب النظر والاهتمام. هنا التاريخ بآثاره التي تفوق كلّ ما بقي منها في العالم الإغريقي القديم. هنا وديان وكهوف الجهاد، وهنا سحر الطبيعة من جبلٍ وشجرٍ وماءٍ وسهلٍ وبحر. هنا معبد زيوس، ونبع أبولو المقدسُ لدى قدماء الليبيين، ومُلهِمُ الأساطير لدى الإغريق. على الساحل أسفل الجبل أبولونيا (سوسة)، ميناءُ قورينا، المسرح المدرّج على شاطئها، والمدينة الغارقة تحت مياهها منذ الزلزال الكبير سنة 365 م. الرحلة من سوسة إلى درنة لا تستقيم من دون التوقف عند سِحر راس الهلال والأثرون، ووادي مرقص حيث التاريخ والطبيعة والعسل، وإلى وادي الخبطة شرقي درنة. وذلك ما كان.

كالتي نقضت غزلها أنكاثاً:
في درنة، لم أستطع مقاومة قوة الجذب نحو أطلال "وسْط البْلاد"، وعاء تاريخ المدينة وتراثها ومعمارها وذاكرتها. هي زيارتي الثانية بعد الأولى في مارس الماضي. توقفتُ عند جوهرتيْ البياصة الحمرا وسوق الخرّازة. في البياصة لمحت شخصاً يقف وحيداً وقفة تأمّل. اقتربت منه، سلّمنا، واستمعت إليه. كانت وقفته أقربَ للأسى منها للتأمّل. الدمار أمامنا كان أوسع مما تتركه أوتفسّره المعارك. دُمِّرت المدينة التاريخية بميدانيْها: البلدية والحمرا، وأزقتها، وأسواقها: الظلام والخضرة والخرّازة الأروع. كانت أيادي الهدم، في عهدٍ سابق، قد امتدت لتمحوَ - تحت عناوين التنمية والتطوير - الكوبري القديم على واديها والمقهى تحت الشجر السامق الكثيف على طرفه الغربي، ومدرسة الزهراء. مقام سيدي الوشيّش استسلم للخراب بعد سنة 2011، بعد حضورٍ مؤنسٍ لصيقٍ بالأرض استمرّ قروناً. مرّ به العثمانيون والإيطاليون والبريطانيون والمملكة وسبتمبر، وبقي هو معلماً يتواضع الطريق أمام أناقته وبساطته فينخفض درجاتٍ ومن ثَمّ يصعد. أما الزاوية الرفاعية فقد طَمَست 'التعديلات' واجهةَ مدخلها ونوافذَها، وتحولت إلى دكاكين.

انقلب المجتمع الدرناوي على الأدب والشعر والمسرح والتعليم، وعلى الاعتدال والتسامح والبناء، الذي كان عليه في أواسط القرن الماضي، متحوّلاً إلى غلُوٍّ ديني وعنفٍ مُصاحب له. قُتل أبرياء، أُرسلت المفخخات، وأُعلنت البيعة للبغدادي. أخفق الأهالي وأولياء الأمور - مَن أراد منهم - في حماية أبنائهم والمدينة من عواقب الانجرار وراء تيّارٍ مغالٍ، كانت له جذورٌ ومحرّضون وداعمون داخل البلاد وخارجها، حتى تمكّن وعُرفت المدينة بأنها حاضنةٌ له. جاء رد فعل مَن حولها نابعاً من ذات روح الانتقام التي ضربت المجتمع في مختلف أنحاء البلاد. مضت مقولة "حتحات على ما فات" مع صاحبها، ومضت روح ميثاق الحرابي ومعها شيوخ أفاضل زانوا ذاك الزمان. حلّ الظلام والطمع والانتقام.

العودة برّاً:
لم يتيسّر الحجز على رحلة جوية إلى طرابلس، فعُدت براً. كان الطريق آمناً، والبوابات الأمنية متواجدة بطوله، مع تغيّرٍ في الشعار المطبوع على المركبات بتغيّر النظام المسيطر، قُبيل سرت. يسألني عند بوابة بعد سرت بعد النظر في بطاقتي: "من درنة؟" .. "نعم".. ويردّ: "تفضلوا". ’مِن أين أنت‘ أصبحت واحداً من محدِّدات مواقفنا من بعضنا البعض.

مررنا بتاورغا، أطلالِ مدينة على الطريق، بلا أبواب أو نوافذ، بلا فخارياتٍ تُباع على الطريق. مصراته من بعدها والطريق إلى طرابلس، حيث ازدحام مروري متزايدٌ مع الاقتراب من المدينة. وصلنا بحمد الله، ليلاً، لنجد الكهرباء قد ’هربت‘.

استبدلنا مرضاً بمرض:
نِعَمُ الله تفوق كلّ وصف وتتجاوز كل تحديد، ولم نكن من الشاكرين العاملين بحُسن وإحسان. استمرأنا التخلّف وراقت لنا صُحبته قروناً، راكمْنا الفساد، وبعثنا الدمار. يقول عبد الرحمن الكواكبي في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، سنة 1902: "قد تنقم [الأمّة] على المستبدِّ، ولكنْ، طلباً للانتقام من شخصه لا طلباً للخلاص من الاستبداد، فلا تستفيد شيئاً، إنما تستبدل مرضاً بمرض."

آن الأوان - أمام قُبح الحصاد - أن ننبذ مهالكَ الغلوِّ، والطمعِ، والمغالبةِ، والتعصب؛ وأوهامَ المنتصرين، وغرور الجاهلين. حرِيٌّ بنا أن نحتفي بالنِّعم التي حبا الله بها البلاد، أن نعيد استكشاف مواطن الخير، أن نحمي الوطن ونصون البيئة والإرث الثقافي والتاريخي من الضياع؛ أن نعيد البناء.