Atwasat

الجيشُ الميّت

نورالدين خليفة النمر الأحد 25 أغسطس 2019, 01:48 مساء
نورالدين خليفة النمر

تثبت حوليات خراب الدكتاتورية حقيقة أن لاجيش في ليبيا. وفي سِفرها الليبي الخاتم عام 2011، فاجأت ليس فقط دول الجوار؛ بل حتى اللبيين أنفسهم ، الذين أنخرطوا منذ عام 1973 لعقدين من الزمن ذكوراً وإناثاً في ضروب متعددة من التجييش والعسكرة. فحققوا عقيدة الشعب المسلح التي نظرّ لها لاحقاً عام 1979 الكتاب الأخضر. المفاجأة الأكثر تحيّيراً أن النظام أربك انتظارات المراقبين لنهايته، بأنه لم يكن قد أسس حتى لمليشيات موازية مستعارة من الأنظمة الشيوعية المتواطئة معه كرومانيا وبولندا، يقمع بها الثورة، بل المفارقة بعد إسقاطه، هي بزوغ ميليشيات استوعبت فراغ الدولة من الجيش والشرطة. توزعت بحجم المتاهة الليبية، وصارت بعد سقوط النظام مصيراً ليبيا متحكمّاً. لينطرح سؤال الدهشة في جملة: هل تأسس جيش في ليبيا الحديثة ؟!.

رغم انعدام الكتابة في الموضوع، نقدر أن نقول أن الجيش الليبي، المحترف لدولة الاستقلال تأسس عام 1953، وكانت الكتيبة الثانية المرابطة في حامية الزاوية الغربية تتمثل فيها جميع الانتماءات الليبية شرقا و غربا وجنوبا، وكل منتسب يحمل رقماً، يضعه تحت طائلة النظام العسكري بعد اجتيازه دورة الأساس في بلدة سوسة بالشرق الليبي، وتم التوزيع بطريقة منظمة. وفي الزاوية و بذات الوقت، والشروط أنشئت مدرسة مؤقتة لتخريج ضباط بدورات سريعة لملء الفراغ ريثما يتخرج المبعوثون للكليات العسكرية، في تركيا والبريطانية في مصر قبل إسقاط الملكية عام 1952، والعراق حتى موسم إثمار الانقلابات العسكرية والانقلابات المضادة عليها بداية الستينات، ويذكر صلاح الدين السوري الباحث القيدوم في نشأة الدولة الليبية الحديثة أن بعض رفاقه في المدرسة الثانوية، قطعوا دراستهم والتحقوا بتلك المدرسة ثم أرسلوا في دورات إلى بريطانيا و أمريكا.

ينطرح سؤال الجيش، مجدداً في الموجة الثانية من انتفاضات الربيع العربي، في الجزائر والسودان. تلكأ الجيش الجزائري، ووصل الجيش السوداني مع قوة التغيير المدنية تقريباً إلى منتصف الطريق حسب نظرية التوافق باقتسام السلطة، الإضافة التي افترضها Morris Janowitz لنظرية صامويل هنتنغتون التقليدية، Samuel P. Huntington التي تقوم على الحياد السياسي للجيش، بأن أكَّد جانووتيز على ضرورة مشاركة المؤسسة العسكرية في وضع أسس النظام الديمقراطي، لاعتقاده أنه من الصعوبة التطبيقية والعملية بمكان أن يتم التعامل مع المؤسسة العسكرية على أنها كيان محايد، أو "تنظيم مرتزق" ينفذ خططًا وسياسات وبرامج أمنية ودفاعية، مقابل امتيازات مادية، ومكافآت مالية. فالفصل الحاد بين المؤسسة العسكرية، وباقي المؤسسات المدنية، يتنافى مع واقع العلاقات المدنية-العسكرية على الأرض؛ حيث إن أفراد القوات المسلحة ينتمون إلى طبقات وفئات المجتمع، وهم ليسوا طبقة مستقلة قائمة بذاتها في المجتمع.

كرّت المسبحة الانقلابية ،بما سُميت بثورة يوليو بانقلاب الجيش المصري عام 1952على الملكية في مصر، في سوريا والعراق واليمن والسودان وصارت للجيش في البلاد العربية المستقلة مهمة سياسية، ليس فقط تغيير أنظمة الحكم الملكية والمدنية الاستقلالية، بل الاستحواذ على الحكم وتسيير أمور البلاد في السياسة والأقتصاد وتغيير المجتمع. وهذا ما نفهمه من عنوان كتاب أنور عبد الملك بالفرنسية "مصر مجتمع يبنيه العسكريون".

عدا أطروحة عبدالملك قليلة هي الدراسات في اجتماعيات الجيوش العربية. فقد هيمنت النظرة التقليدية المتركزة على البحث في سوسيولوجيا التنظيمات على واقع أن التنظيم الفردي يشكل بحدّ ذاته وحدة التحليل، بينما ماكس فيبر أخذت أبحاثه في الحسبان التركيز على السلطة بحد ذاتها، في إطار مجموعة أوسع؛ أي في سياق مجموع النظام السياسي والاجتماعي في مجتمع بعينه. إن تبني مستوى تفكير يتموقع في إطار مجموع المجتمع قد يعطي للبحث في سوسيولوجيا التنظيمات الأهمية التي تغيب عن بصيرة تلك المحاولات الوصفية، التنظيمية والتعميمية. وبدلاً من الاهتمام بالفعالية التنظيمية، كان الأجدر أن يُجعل من العواقب الاجتماعية المترتبة عن النشاط التنظيمي النقطة المرجعية في التحليل والبحث. وبعد ذلك،يمكن التساؤل مباشرة عن الخصائص التنظيمية البنيوية والسيرورات التي تحددها.

التسيّس الذي بدأ بالجيش المصري ترافق وصعود البرجوازية المصرية الصغيرة، التي دفعت بأبنائها للالتحاق بكليات الضباط، وتقاسمت أجندات الأحزاب الوطنية، كالحزب الوطني، ومصر الفتاة، والوفد، اهتمامات وانحيازات الضباط المصريين الأحرار الذين أطاحوا بالملكية عام 1952، بل تسربت لبعضهم توجهات اليسار المصري أيضاً. الجيش السوداني القريب في بنيته من الجيش المصري توغلّ فيه التسييس والأدلجة بتوجهها الصوفي الإسلامي، والإسلام السياسي متأخراً، واليساري القومي بشكل أوسع. أما الجيش السوري كونه تأسس رديفاً للجيش الاستعماري ، الذي استقطب الأقليات جنوداً، وجهوا أبناءهم ضباطاً تم استقطابهم من قبل حزب البعث القومي، الذي عكس انهمامات الطبقة البرجوزية الصغرى في سوريا والعراق. ويظل جيش التحرير الجزائري، هو الجيش الأكثر جدارة للمبحث السوسيولوجي، كونه يحمل صفة الجيش الشعبي الذي كان التثقيف في الحرب الثورية والطبقية ملمحاً ميزه عن الجيوش العربية التقليدية.

لا أود إعادة ماكتبته في التأريخ للجيش الليبي بناءً وتدميراً ممنهجاً نلحظ اليوم نتائجه الكارثية في مظهريات الميليشيات المتوّزعة في خريطة الفوضى على امتداد المتاهة الليبية. وسأركزّ فكرة مقالي في مصير الجيش الليبي، المنبئ بدماره وتلاشيه الذي كشفته ثورة 17 فبراير 2011. بتعرّض ضباطه من رتبة رائد إلى مافوق لقانون التطهير، بعد انقلاب 1969 وتحويلهم إلى جهاز الخدمة المدنية، ثم افتعال محكمة الشعب التي ألقت بقياداته في قفص الاتهام، بل كالت لبعضهم الإهانات، وضروبا سيئة من التوبيخ على شاشة التلفزيون. الفراغ الهائل في الرتب ملأه ضباط من دفعة الانقلابيين، قُفز ببعضهم ثلاثة رُتب، وهو ما أحدث خللاً هائلاً في بنية الجيش وكفاءته.

توجّس رأس مجلس انقلاب سبتمبر من أقرانه مبكراّ، وهذا ما دفعه لإعلان الثورة الشعبية أبريل 1973، أول مسمار دقّه في نعش مجلس الانقلاب. وفي أغسطس من العام ذاته فوجئت مدرستنا الثانوية علي النجار، بزيارة قائد الأنقلاب غيرَ مصحوب بأحدٍ من رفاقه، وقد رُتبت ندوة حوارية مع طُلاب مميزين من القسمين الأدبي والعلمي الذين اجتازوا ذاك العام الشهادة الثانوية، وهدفها تحريض من تميز منهم في النقاش للالتحاق بكلية الضباط. ومن تمنّع حُرم من حقوقه المدنية بما فيها الدراسة الجامعية، والأمر نفسه تكرر مع طلاب القسم العلمي بمدرسة النصر الثانوية في طرابلس. انقلاب أغسطس 1975 المفشل، كان الضربة القاصمة للبنية الضابطية للجيش، فقد تمت إزاحة عددٍ كبيرٍ من رتب النُقباء أعضاء الانقلاب.

الخلل في فعالية الجيش الليبي وكفاءته كشفته الحرب القصيرة المصرية ـ الليبية من 21 يوليه إلى24 عام 1977. والإنزال الفاشل لـ 3000 من قوات الصاعقة مغطىً عليها بكتيبة من المقاومة الشعبية في أوغندا 1979 لتلافي سقوط نظام الدكتاتور عيدي أمين، ثم إقامة ليبيا، بالتنسيق مع سوريا بعد اجتياح اسرائيل عام 1982، قاعدة ارتباط عسكرية في جبل لبنان كان وجودها نافلاً. إلا أن هزيمة معركة "وادي الدوم" الخاتمة لحرب تشاد مارس 1987 كانت القاتلة، بعدها لم يُعد الكلام عن جيش ليبي له معنىً .إلا كاستعارة في رواية الألباني الكاتب إسماعيل كادريه "جنرال الجيش الميت" التي تناصّها من رواية الكاتب الروسي نيقولاي غوغول "الأرواح الميّتة ".