Atwasat

الروتين عبودية وعبادة

جمعة بوكليب الخميس 22 أغسطس 2019, 12:50 مساء
جمعة بوكليب

خلق الله الانسان حراً، ومنحه كل الأرض، فاخترع الإنسان الروتين، وألقى بنفسه، وبحريته، طوعاً بين براثنه، فصار عبداً له، وسجيناً بين جدرانه، ومحاصراً داخل أسواره، وأبوابه المقفلة، وحين انتهى من ذلك، صار يشتكي من الملل الذي يكبل حريته، ويقيد حياته، ومن الضجر الذي يمضغها مستمتعاً، ويبتلعها، قطعة قطعة، على مهل.

نحن، حقاً، عبيداً لروتيننا اليومي، الذي خبزنا عجينه بأيادينا، وصرنا نقتات على ما يقدم لنا من فتاته، ولم يعد يشغلنا براح العالم وانفساحه، ولم يعد يربكنا أن تشرق الشمس في أماكن أخرى، مختلفة، أو تتفتح الورود على مسافة ليست بعيدة من إقامة روتيننا، وبيوتنا، ولم يعد يريحنا أن نخرج ولو خطوة واحدة عما تعودناه، وما آلفناه، وكأن الروتين شعائر وطقوس دينية، دأبها الانتظام والاستمرار في أدائها، والشعور بالراحة النفسية عقب ذلك، لإحساسنا بقيامنا بواجباتنا الإيمانية على أفضل وجه، ودون تقصير.

الروتين يسمم حياة البشر، ويقتلع من عروقهم الفضول المعرفي، وحب المغامرة، والتنقل، وشهوة الرحيل، وخوض معاقل المجهول. فالواحد منا بمجرد أن يستيقظ صباحاً لا يفكر بشيء خارج ما تعود القيام به كل يوم، حتى ينتهي النهار، ليجد نفسه منهكاً من الملل والتكرار، وينام ليله بلا أحلام.

تذكرت كل ذلك، بعد أن أقنعتني بنتي أموله، مؤخراً، بمرافقتها إلى زيارة أحد المتاحف المعروفة، فأُسقط في يدي، ولم أنبس بكلمة. زيارة المتحف ليست عبئاً بدنياً، ولا تكلف مالاً لأن المتاحف لا تفرض رسوم دخول على زوارها، لكنها عبء من نوع آخر، أقرب ما يكون إلى جر بنادم من فراشه غصباً، كي يرى وجه النهار، ويرى العشب والشجر والطير والبشر، وتلمس قلبه طزاجة هواء الصباح، ونعومة أشعة شمسه. كان الخروج عن خطوط روتيني اليومي هو ما أزعجني، وما أربكني، وجعلني في حالة نفسية غير مريحة. التعود على ذلك الروتين – العبادة، وسجن نفسي في ضيق قفصه، ومضغ ساعات يومي داخله، حولني إلى عبد من عبيده، لا أعرف كيف أحيد خطوة واحدة خارج المربع الذي حاز روحي بين أضلاعه الأربعة.

الغريب، أنني قضيت، مع أموله، نهاراً ممتعاً. بداية، التقيت بالثيمز العظيم، النهر الخالد، وقد استيقظ من نومه، وارتخى مستلقياً، في مجراه، مانحاً الفرصة لأشعة شمس ناعمة أن تداعب طراوته، ويستحلب دفئها. وفتحت شراع قلبي، من عقدته في السارية، ورفعت مخطاف رسو قاربي، وانطلقت في مجرى النهر، مرافقا القوارب، والعبّارات، حتى رسوت به أمام المبنى الضخم، العتيق، الذي يضم بين علو بنيانه، ومقامه، تجليات الفن والحضارة في أكثر تجسداتها حداثة. واستمتعت كثيراً بما في المتحف من لوحات ورسومات مبتكرة، وتصاوير، وشرائط مصورة، وازدحام بشر من كل الأعمار والألوان، يتحركون على مهل بين أروقة المتحف وصالاته الواسعة، ويتكلمون بهمس، ويلتقطون الصور التذكارية بعدسات هواتفهم المحمولة. ورأيتني منجذباً إلى إيقاعات الحياة، خارج إطار وجدران وأسوار ما أحطت نفسي به من روتين، كاد أن يمسخ روحي، ويحيلني إلى ما يشبه كومة من رماد، تغطي ما تبقى مشتعلا في القلب من جمر الانتماء إلى الحياة، وحب الدنيا، والشغف بالفن والثقافة، والالتحام بإيقاع غيري من البشر.

الحياة، مهما طالت، قصيرة، هذه ليست حكمة رجل متقاعد، مبلد بالروتين، ولكنها حقيقة واضحة وصريحة، ولا يجهلها أحد. وأن نختار بوعي، أو بغير وعي، الخروج من مسار تدفق مياه أنهارها، لن يكلف الحياة شيئاً، ولن يضيرها. وأن ننحاز، بوعي، إلى خوض غمارها، والاشتباك مع أحداثها، ومغامراتها، قد يعود بالفائدة علينا، وعلى الحياة.

حين خلق الله العالم، وقبل أن يخلق الإنسان، لم ينس أن يجعله فسيحاً، بتضاريس، وألوان مختلفة، وبجبال وأنهار وسهول، وينابيع وبحار، ثم بعد ذلك، خلق الإنسان، حراً، طليقاً، وجعل في قلبه حب الفضول وحب المعرفة، وحب المغامرة، وتركه ليعيش في الأرض، ليستعمرها، ويعمرها، ويطورها. وبدلاً من أن يستغل الإنسان ذلك الانفساح والرحابة، قام باختيار أقرب قطعة أرض إليه، وسيجها، وسجن نفسه داخلها، وادعى ملكيتها. فضاقت الدنيا الواسعة، وتحولت إلى مربعات ومستطيلات، أشبه بسجون، ترفع فوقها أعلام ملكية خاصة. وبدلاً من أن تستقطبه الحرية والمغامرة، خلق الروتين، وصنع لنفسه قفصاً ضيقاً، ودخله بقدميه طوعاً، ثم أقفل بابه عليه، فضاقت الحياة، وتلاشت الحرية. ولم يكن أمام الإنسان، بعد كل ما قام به ضد نفسه من أعمال وأفعال، سوى الشكوى الدائمة من الملل الذي يقتله، ومن التكرار الذي أفقد الحياة لذتها، وأحالها إلى مسخ، ومن الضجر الذي ملّ من حمله فوق كتفيه المرهقين.
يا حلاوة يا ولاد..!!