Atwasat

إدارة الوساوس وجماليات نظرية المؤامرة

سالم العوكلي الثلاثاء 20 أغسطس 2019, 12:51 مساء
سالم العوكلي

سواءً من جاءوا من دول المغرب العربي، أم جاءوا بعد سقوط الأندلس، أم جاءوا من الجزيرة واليمن، أو من تبقوا من إمبراطوريات سابقة هُزمت، أو من تبقوا من سفن تجارة الرقيق بعد صدور قانون منع الرق، أم سكانها الأصليون الذين تعرضوا لحروب إبادة ما جعلهم يلوذون بالجبال ويبنون قراهم القديمة على حواف أجراف عالية بمدخل واحد محفور به خندق توضع عليه قنطرة في النهار وتزال في الليل ما سميتها سابقا عمارة الخوف. ليبيا تكون عمرانها غالبا من مجموعات هاربة ومذعورة سكنت هذا الفراغ الجغرافي وتقوقعت ولاحقها الإحساس بالمؤامرة وبالملاحقة، وعن كل ذلك ترتب نمط من العيش في حالة نفير دائم وتحت ضغوط لاوعي شامل يحيل صراع المصالح الجماعية أو الفردية إلى نظرية المؤامرة، ويجعل التوجس من الآخر ظاهرة في الثقافة الاجتماعية وما يتفرع منها من صراع سياسي أو اقتصادي.تكثفت هذه المشاعر السلبية، أو وجدت بيئتها الخصبة للنمو بسرعة تحت وطأة نظام استحوذ على أكثر من جيل شكل نموذجا مَرَضيا حادا لهذه الوسواس القهري، عاش عقودا تحت إحساس ضاغط بأن الخارج والداخل يتآمر عليه، وكانت كل استراتيجيات إدارته للمجتمع منطلقة من هذا الوسواس الذي لم يأت من فراغ، لكنه شكل حالة مكثفة لبيئة اجتماعية حاضنة له.عمارة الخوف القديمة تطورت في المعمار والعمران الحديث، وجعلت من البيوت الحديثة قلاعا محصنة تحيطها أسوار عالية. البعض تفتقت قريحته عن غرس زجاج مهشم في أعلى السور، بينما أسوار المدارس والمؤسسات ترتفع دون هوادة وكثير منها تعلوه أسلاك شائكة، وبمجرد أن يستلم المواطنون مساكن شعبية في عمارات أو بيوت أرضية، تبدأ مشاريع التحوير والتعديل لهذه البيوت بعد استلامها بما يستجيب لوسواس الخوف من المحيط ، فأبواب الخشب تتحول إلى أبواب حديد، والنوافذ تدجج بقضبان فولاذية، والشرفات في الطابقين الأولين يعنكب فيها الفولاذ، بينما تمتلئ الجدران في الداخل بالتعاويذ وبالآيات القرآنية الحامية من الحسد والعين، فكل زائر هو مشروع شخص يملك قوى قاهرة لبث الخراب في البيت إذا لم يُتّقَ شره بهذه التعاويذ .من هنا تتولد في اللاوعي العلاقة المتأزمة مع الآخر، سواء على المستوى الاجتماعي، أو على المستوى السياسي والأمني، وتُرسم استراتيجيات الدولة منطلقة من هذه الوساوس، فكل أجنبي ينظر إليه كجاسوس، وهو شعور ضاغط عطّل في السياسات العامة مصادر مهمة للدخل لا تقل عن النفط؛ مثل السياحة والاستثمارات الخارجية وتجارة العبور، لأنها قطاعات تهدد الأمن القومي بالجواسيس وبكشف أسرار الدولة.

هذه النظرة للأخر (المفترض أنه متآمر أو عدو أو حسود حتى يثبت غير ذلك) تنشر مظاهرها في التراث الشعبي، في الشعر وفي الأغاني وفي الأمثلة الشعبية، وفي إكسسوارات البيوت من تمائم (حويتة واخميسة وقرين) وغيرها مما يدفع شر الآخر المتطفل على استقرار العائلة/الدولة، وبينما كانت البلاد تتهاوى كانت أغنية "حويتة واخميسة وقرين ... عليك يا بلادي م الحاسدين" تحل تقريبا محل النشيد الوطني (الله أكبر) الذي لا يمكن قراءته بمعزل عن هذا الوسواس القهري ونظرية المؤامرة التي يستعاذ منها بالتكبير المتواصل في نشيد وطني كأنه تعاويذ علاج مس من الجن.

ينطبق هذا التوجس على كثير من المجتمعات المغلقة التي عزلت نفسها وعاشت داخل هذه العزلة والوساوس نفسها؛ ضد بعضها البعض، غير أن بعض تلك المجتمعات تجاوزت هذه التربية الشاملة، أو أن سياسات الدولة التي تقودها نخب نجت من هذه المشاعر السلبية، وانفتحت على العالم، وحققت نوعا من السلم الاجتماعي، ونقلت الصراع المجتمعي من خَدَر نظرية المؤامرة إلى مدارج صراع المصالح والتنافسية التي تعتبر نزعة إنسانية يمكن إدارتها بشكل يخدم الفرد والمجتمع، غير أنه في ليبيا وبسبب اعتمادها على مصدر وحيد للدخل (اقتصاد ريعي)، وبسبب وصول مجموعة للسلطة عبر تآمر على النظام السابق لها، كرس هذه الذهنية بشكل مُركز ، حوّلها إلى خطابات حماسية، وإلى هتافات، وإلى مناهج دراسة، وإلى إعلام تعبوي، وإلى نظرية (عالمية) تنطلق في جوهرها من نظرية المؤامرة التي قامت بها كل النظم السياسية وكل التجارب الديمقراطية الأخرى ضد شعوبها، فالديمقراطية بمفهومها الغربي مؤامرة، وحقوق الإنسان مؤامرة، وحرية التعبير مؤامرة، وكل ما أنتجته الحضارات من محاولات ترقٍّ وتطوير للنظرية السياسية مؤامرة. ومنذ بداية تلك الحقبة أُعدِمت أو سُجِنت النخب الليبية عبر اتهامات بالمؤامرة على الشعب والوطن، من طلاب ورجال أعمال ومثقفين وأدباء وضباط جيش، بل أن النخبة التي أسهمت في تأسيس الدولة الليبية الوطنية وُضِعت في السجون أو المشانق أو المنافي بالتهمة نفسها.

في ظل هذه التربية المريضة نشأت أجيال كاملة، تشربت هذه المشاعر وهذا النزوع العدواني تجاه الآخر، بينما ما يحيط بهذه الحالة من تخطيط عمراني، و أكسسوارات، ولافتات مكتوبة في الشوارع وعلى الجدران؛ إضافة إلى الخطاب الإعلامي المكثف، عزز هذه الأحاسيس وحوّلها إلى حالة لاوعي شامل يجعل الفرد الذي يتعطل محرك سيارته لأنه خالٍ من الزيت، أو يتعرض لحادث سير بسبب قيادة متهورة، يحيل هذه الحوادث إلى منطقة (الحسد والعين) تلك المنطقة التآمرية المواسية التي تحال إليها كل إخفاقاتنا وفشلنا ومآسينا دون أن نفكر حتى في بحث أو دراسة الأسباب المنطقية وراء حدوث هذه المآسي، مع أن العالم الحديث وصل إلى اكتشاف الأسباب وراء الكوارث الطبيعية وتفاديها أو تقليل خسائرها.

ينعكس كل هذا في الصراع الليبي الحالي، في ذهنية السياسيين الذين يقودون البلد، وفي وسائل الإعلام المختلفة، وفي مواقع التواصل التي أصبحت مساحة لعرض هذه الوساوس ومنصات لنشاط العقل الخرافي الذي يجدد نفسه في قلب أكثر التقنيات تقدما، لتكتظ جدران الفيس بوك نفسها بأكسسوارات البيوت من التمائم وآيات القرآن والأدعية التي يستعاذ عبرها من شياطين وحساد الفيس بوك والتويتر وكل مواقع التواصل الاجتماعي . تنعكس هذه الوساوس في المهرجانات المسرحية والمسابقات الفنية، فكل من لا يفوز بجائزة يثير عراكا لأنه ضحية مؤامرة، وينعكس في ملاعب كرة القدم فكل فريق خاسر هو بسبب مؤامرة من الحكام، أو اتحاد الكرة ، أو أي شيء ما عدا أن تكون الأسباب فنية أو إدارية وراء هذه الخسارة.

حدثني مرة أحد مشجعي نادي الأفريقي بأنهم لا حظوا، ولمباريات متتابعة، أن الفريق لم يسجل هدفا واحدا رغم الفرص السانحة التي يتحصل عليها، فقرر هو وبعض المشجعين المتعصبين الذهاب إلى أحد المشعوذين المختص بفك النحس (التبيعة) أو كشف السحر الذي أبعد مهاجمي الفريق المخضرمين عن شباك الخصوم، وبعد أن انتهى دور بعض العجائز أو زبائن المشعوذ دخلوا وحدثوه عن مشكلتهم، فضحك المشعوذ وقال: أنا لا علاقة لي بكرة القدم ولكن أنصحكم بأن تجلبوا مدربا جيداً، وتتمرنوا كما يجب، وتزودوا اللاعبين بغذاء جيد، وسيبعد الله النحس عنكم.

في بداية حراك فبراير، وبعد خروج مدينة درنة عن سلطة النظام السابق، شاهدتُ وأنا مار بطريق الكورنيش زحاما كبيرا لناس ركنوا سياراتهم على يمين الطريق وفوق الرصيف وهم يتفرجون على حدث في الميناء الواقع تحت الكوبري، ركنت سيارتي لأعرف ماذا يحدث، وحين أطللت على المشهد رأيت جرافة تزيح صخرة كبيرة في الأسفل، سألت أحد المتفرجين فقال لي : اكتشفوا سحرا وضعه القذافي لسكان المدينة تحت هذه الصخرة ويعملون على إبطاله، وتقريبا كان الكل معتقدا ومؤمنا بهذه المؤامرة ما عدا الجرافة الصفراء التي تئن تحت ثقل الصخرة.

تتحول الوساوس إلى صخرة كبيرة، فعلا ومجازا، وكل واحد منا يحمل هذه الصخرة مثل سيزيف الأسطوري التي أصبحت صخرة عقاب الآلهة جزءا من جسمه ومصيره.

لحظة هذا المشهد الذي تكرر في مدن أخرى أحسست بخوف كبير من المستقبل، لم يكن الخوف من قوات القذافي التي مازالت تدافع بضراوة عن الزعيم الذي كان دائما يستعين بالسحرة والمشعوذين لتثبيت سلطته، ولكن الخوف الأكبر من هذه الذهنية التي تنزع حقبة كاملة من سردية التاريخ الطبيعي للأمم وتضعه في سياق القوى الخارقة والسحر والشعوذة، من عقلية لا تعرف أن هذا النظام ورأسه كان مجرد تكثيف لهذا الوسواس القهري الاجتماعي الذي ينعكس بجلاء على كل سيميوطيقيا هذا المجتمع أو أدوات خطابه وتواصله الصامتة من معمار وإكسسوارات وفنون تراثية.

وفي قلب هذا الولع بالخرافة وبنظرية المؤامرة المتطرفة كان من السهل أن تتشكل وتنمو جماعات دينية وجدت الأرض خصبة لزراعة أفكارها الغيبية وفتاواها المشعوذة، وتحولت الثورة السياسية التي بدأت في فضاء الفيس بوك إلى ثورة دينية تقمصت مراحل الإسلام الأولى وافترضت أن الثوار مؤمنين يحاولون فتح المدن الكافرة وتحطيم أصنامها، بل اختاروا ذكرى فتح مكة كموعد لدخول طرابلس، وكانت الحشود منخرطة في هذا الانحراف البنيوي للثورة عبر التكبير والأدعية والنذور، وتستمر المعارك وهي تستعير من أرشيف الدين أسماءها ومن ذاكرة حروب الطوائف شعاراتها وأهدافها، حتى في مجتمع لا طوائف فيه.