Atwasat

3/3 - تداعيات

محمد عقيلة العمامي الثلاثاء 20 أغسطس 2019, 11:57 صباحا
محمد عقيلة العمامي

حكاية السيدة أرمانا والبحار الجبلي
عند مغرب يوم ربيعي، طرق بابي شاب هاديء الملامح. قدم نفسه بأدب، مضيفا أنه صهر صديق لي. دعوته للدخول فاعتذر. أخبرني أنه جاء يشكرني نيابة عن عائلته عما كتبته عن والده في قصة (بابور بالا): 

- "الحقيقة أننا ممتنون لتناولك قصة والدنا، وإشادتك بتضحيته. ثم إننا نود لو كان بمقدورك أن تفيدنا عن عنوان السيدة الإيطالية، التي أنقذها والدنا.. الحاجة تريدنا أن نتصل بها لنشكرها على وفائها!". 

أعترف أنني انفعلت بطيبة الحاجة، وتخيلتها بسيطة وفية مثل أمهات الأربعينيات والخمسينيات. لابد أن أحد أبنائها حدثها عن القصة، ولابد أنها فخورة بشهامة (المراكبي) ولابد أنها تذكرت ليلة فقدانه.. ومع ذلك كله أحستْ بوفاء (أرمانا) واحترمته! 

ولكنها كيف تتقبل حقيقة أن (أرمانا ) مجرد شخصية خيالية لا أساس لها في حقيقة قصة تضحية زوجها وفقدانه؟ كيف تتقبل أن المرأة التي فقدت زوجها بسببها لا أحد يعلم عنها شيئا من 3/ 8/ 1936؟. 

دعوت الشاب للجلوس معي على عتبة البيت، ثم شرحت له القصة وبينت له سبب ابتكار شخصية (أرمانا). والحقيقة أنه تفهم الأمر تماما، ثم اقتنع برأيي عندما نصحته بألا يخبر والدته بأن (أرمانا) شخصية خيالية: 

- " دعها تعيش الخيال، فذلك لا يضرها في شيء بل يسعدها أن تعرف أن إنسانا آخر يشاركها الإعجاب بشهامة زوجها! قل لها إنك لم تتحصل على عنوانها بعد وإنك تسعى للحصول عليه. لا تحرمها من الأمل، فهو البلسم السحري الذي لا يحيا أحد بدونه". 

أما قصة البحار الجبلي الذي رفض أن يموت مبلولا، بدأت عندما غمر الظلام الأفق الساجي الممتد أمام بوغاز ميناء بنغازي ليلة 3/ 8/ 1936، أخذت الجموع تتفرق. كل من كان له أحد في (بابور بالا) اتجه إلى بيته استعدادا لاستقبال المعزيين، فمن يتوقع ناجيا بعد أن انقضى يوم كامل على غرق السفينة؟ من بمقدوره أن يسبح كل هذه الساعات؟. 

وفيما كان ذوو ذلك البحار، الذي جاء إلى بنغازي من غريان صبيا يهيئون شارعهم لسرادق العزاء، كان ذلك الغرياني الجبار يسبح فوق رؤوس الأقراش الشرسة؛ في ذلك الليل البهيم، مؤكدا لنفسه أنه لن يموت مبلولا: "لن أموت إلاّ تحت زيتونتنا في غريان.. أنا وعدت والدي بذلك، ووعد الحر دين عليه .." ظل طوال الليل يسبح ويغني في سره بأنه لن يموت مبلولا!

ظهر اليوم التالي، هب الجالسون أمام بيت الغرياني عندما شاهدوا فقيدهم مقبلا نحوهم وبعدما احتضنوه مبتهجين بعودته، لم يطل بقاؤه، فقد فارقهم ليطوف على منازل رفاقه، الذين ابتلعهم البحر. وما إن أبل من حزنه حتى عاد للبحر كأنه لم يذق غدره، لأن الجوع كافر، والفقر مدقع، وأبواب الرزق قليلة. لم يكن لأمثاله إلاّ البحر، هذا البحر العجيب، بوابة الخير وبوابة المصائب.

بعد اثنين وخمسين عاما. قرر أن يزور مسقط رأسه في غريان، هناك مرض لمدة يومين ثم توفاه الله. وعندما قرر ذووه أن يدفنوه اكتشفوا أنه هناك، أسفل زيتونة عتيقة، مساحة كافية لقبره بين قبر والده وقبر أخيه، فوسدوه ثراها. 

المرحوم بشير محمد الغرياني، هو بطل هذه القصة الحقيقية، وما كنت لأعرفها لو لم يحدثني عن تفاصيلها بالصدفة ابنه صديقي محمد بشير الغرياني. الذي كان حينها، يعمل للصدفة العجيبة في مجال تسيير (بوابير) تشق بحار العالم كل يوم!.

لم أعثر ضمن الوثائق، التي تناولت غرق (بابور بالا) ما يشير إلى نجاة هذا الغرياني الصلد، ولكن الكثير من الناس الذين عاصروا تلك الكارثة يعرفون أنه نجا من تلك الكارثة .

لعلني كنت سأتناول قصة هذا الغرياني الجبار بهذه الكيفية لو أنني عرفتها في حينها، ولكن ألم أقل لكم أنه لا تاريخ كاملا؟ فكيف عرفت قصته؟ ذات ليلة، كنا نتحدث عن الأسماك، فقلت لهم: 
- "ليس ثمة سمكة في شواطئنا أفضل من المناني.. الصيادون القدماء يسمونه (حولي البحر).." عندها عقب صديقي محمد الغرياني: 
- "هذه مقولة والدي، رحمه الله ".

ثم استطرد بملامة: 
"والدي، الذي، ظلمته يا حمادي، ولم توثق نجاته من الغرق مع من نجوا من (بابور بالا)!". 

والحقيقة أنني لم أسمع من أحد أن هناك من نجا من الغرق أكثر من (البرعصي) فقص على قصته بحسب ما ذكرتها، لأنني أيقنت أنه: لا أحد يدري كيف كتب التاريخ الذي لم نعاصره، ولا كيف سيكتب تاريخنا إن لم نوثقه.