Atwasat

سلطة العبث

سالم العوكلي الخميس 15 أغسطس 2019, 11:22 صباحا
سالم العوكلي

أغرتني مقالة الكاتب أحمد الفيتوري (عبث السلطة) المنشور ببوابة الوسط، 30 يوليو 2019 ، التي يشير فيها إلى انتقال عدوى العبث إلى أيقونات السلطة، سواء غير الحي منها، أو إلى جهازها البيروقراطي البشري، أغرتني بمشاكلتها والاستطراد بما يضيء زوايا أخرى لهذه المسألة وكيف تعامل معها خيال الفن، خصوصا عندما يصبح العبث في حد ذاته سلطة، لها مؤسساتها التي تدافع عنه بضراوة وتخصص له ميزانيات وكوادرَ، فيمحو الحد الفاصل بين النظام السياسي والدولة الخدمية، وهذا تقريبا ما حدث في ليبيا طيلة عقود، خصوصا الثلاثة الأخيرة التي أعقبت بيان سلطة الشعب وأوقفت ديناميكا الدفع الذاتي التي تحركت بها الدولة وفق قوانين وجهاز بيروقراطي سابق، مثلما يتحرك المجتمع الآن بديناميكا سلطة العبث التي مازالت تعمل بطاقة الدفع الذاتي.

حقيقة، كثيرا ما اعتبر ما حدث في ليبيا استثنائيا، وقد تصعب معايرته أو قياسه بنظم دكتاتورية سابقة أو لاحقة، لأن فكرة العبث في المنظومة انطلقت من نظرية مكتوبة بشكل إجرائي جازم وحاسم، وتحول هذا الطرح النظري للعبث إلى إجراءات وتشريعات وأجهزة ومؤسسات وميزانيات تعمل ليلا نهارا من أجل نفاذه في المجتمع أو في الدولة المتخيلة (دولة الجماهير) والكثير من المقاطع في الكتاب الأخضر التي طالما تفكه عليها الليبيون وحولوها إلى محاور لتوليد النكتة تحمل في الواقع شحنة مقصودة من الهزل والعبث المقصود، والغاية من كل ذلك هو تحويل العلاقة بين المواطن وأجهزة الدولة إلى ما يشبه العلاقة الكهنوتية بكل ما فيها من غموض وتلاعب وهزل لا يخلو من الورع، والتعامل مع كل شعاراتها كطواطم أو أوثان لا تطرح الأسئلة بشأنها ومحذور نقدها، فكل ما أبانت إخفاقها يرد ذلك إلى خروج العباد عن تقاليدها وليس العيب فيها، تحركها فلسفة غيبية وسلطة ميتافيزيقة، تظهر وتختفي، تقوم بكل شيء وتتبرأ من النتائج، تمتاز بكل الصلاحيات وتتنصل عن المسؤولية، صنعت طبقة من المؤمنين بها تشبه طبقة الإكليروس، وحولت الكثير من المقولات الشائعة إلى ما يشبه آيات الكتب المقدسة، وأسبغت على رأس السلطة كل أوصاف وأسماء النبي ثم الإله.

لعل التاريخ زاخر بمثل هذه المنظومات اللاهوتية التي رسمتها مخيلة الطغيان، غير أن التاريخ يقول أن هؤلاء الطغاة لم يتبرؤوا من المسؤولية أو من أساليبهم الدكتاتورية التي يرون أنها ضرورية لبناء أمة قوية ولتحقيق أهداف شعوبهم ولو بالإكراه. لكن ما حصل في ليبيا، أن الحاكم أو الرئيس أو المسؤول الأعلى غير موجود نظريا، وبالتالي فإن الشعب هو الحاكم الذي يحكم نفسه ويراقب نفسه... إلى آخر تجليات العبث في أعلى مستوياته (أتذكر في أحد المهرجانات المسرحية تعليق الكاتب منصور بوشناف على نقاش دار حول بيكيت ومسرح العبث بقوله: "المسرح العبثي في ليبيا مسرح واقعي لأن الواقع كله عبث".

لاحق هذا الكابوس البيروقرطي الروائي كافكا في معظم رواياته، القصر، المحاكمة، القعلة، المفقود، ليبلغ هذا التنظيم البيروقراطي المنظم بطريقة شيطانية ذروته في تحول الموظف سامسا إلى حشرة ضخمة في رواية المسخ التي تتحرى وصف متاهة التنظيم الاجتماعي التي يتوه فيها الإنسان ويمضي إلى هلاكه، أو على الأقل إلى يأسه الكامل.

أما ذروة العبث في المنظومة البيروقراطية الليبية فقد طرحه المخرج: ذاوود الحوتي في مسرحيته (خرف يا شعيب) التي تقدم مواطنا ينتظر أمام مكتب أحد المسؤولين وهو يتحدث مع سكرتيرته التي تؤكد أنه مشغول في اجتماع، وخلال هذا الانتظار العبثي يجرد فيها شعيب العائد من الخارج باقتراحات علمية لحل أزمات المجتمع كل الفساد المنتشر في أجهزة الدولة وإدارتها. يطول الانتظار زمنا لا نعرف مداه، أياما أو شهورا أو سنوات، لكنه يظهر عبر التنكر أن المواطنين المنتظرين أمام المكتب قد تحولوا إلى تماثيل متحجرة، ويبلغ العبث ذروته حين يقرر المواطن (الذي يقوم بدوره ميلود العمروني) اقتحام المكتب، فلا يجد به أحدا على الإطلاق، أو كما يقول (سفرتح).

قبله أنتج المخرج عبد السلام حسين فلم (الوزارة) القصير الذي يتابع يوميات مواطن ضائع في متاهة العبث الإداري، يتضخم ملف أوراقه بقدر ما تتقلص كينونته، حتى يمضي إلى هلاكه في مشهد يرصد موته وطقوس دفنه مع ملفه الذي انتزعت الريح بعض أوراقه وبعثرتها في المقبرة.

وهنا وهناك يتبدى عبث السلطة أو بالأحرى سلطة العبث إلى مستوى آخر من البيروقراطية في ليبيا تمشي وحدها دون مسؤولين أو مؤسسات أو جهاز وظيفي قابل للإصلاح، بيروقراطية في الواقع يوجد فيها موظف واحد (ميتافيزيقي) يمكنه أن يتخذ قرارا. بينما الديكور المحيط به يشبه المكتب الذي قدمته مسرحية خرف يا شعيب، فكل شيء من مظاهر العمل موجود لكن من دون أداء أو عمل، أو كما قال مبتدع فمرة علاج الاقتصاد بالصدمة: الخبير الاقتصادي الأمريكي مايكل بورتر، في آخر تقريره عن الإدارة والاقتصاد في ليبيا: "منظومة العمل في ليبيا مصممة بعناية بحيث لا تعمل". يحاول المواطن الذي يقولون له كل مرة (عدي فوق) في سلم التراتب الوظيفي، أن يصعد سلما منصوبا على خشبة المسرح لكن السلم لا يؤدي سوى إلى الفراغ وليس بإمكانه الوصول إلى الآلهة التي تحل وتربط، يقول وهو يهبط من السلم: ديما يقولوا عدي فوق .. فوق .. فوق. ثم ينزل ويدخل وسط جمهور المتفرجين وهو يردد: فوق ما في شيء. إلا لوطا لوطا. وبمعنى أنكم أنتم القادرون على اتخاذ القرار وتغيير الواقع العبثي، في إشارة تحريضية واضحة للثورة على المنظومة.

عندما حضرنا، كفريق العمل على مشروع ليبيا 2025، دورة في دبي لكتابة السيناريوهات المستقبلية، حدثنا البروفيسور القائم على الدورة عن تجربته في ليبيا، حيث فرضت عليه بعض الأعمال الاستشارية مع مكتب التخطيط الوطني أن يزور ليبيا مرارا، فالتقي بالوزير المسؤول كي يتحصل على تأشيرة دخول مستمرة، لأنه كل مرة يدخل في دائرة إجراءاتها الصعبة، وافق الوزير ورفع الهاتف وأمر القائم على الجهة المسؤولة بإصدار التأشيرة، وحين ذهب إلى الجهة بأمر من الوزير لم يستطع الحصول عليها، فيعود للوزير ويصدر الوزير أمره من جديد مرفقا برسالة منه للتنفيذ فورا، لكنه لم يحصل على التأشيرة أبدا، وقال: لاحظت أن عمل المسؤول في ليبيا أو الوزير مثل الذي يمسك بذراع مقود السفينة بيديه لكن المنظومة بين المقود والدفة مفصولة، فهو يديرها في الهواء معتقدا أنه متحكم في كل شيء.

بالتأكيد ثمة سلطة خفية هي التي تتحكم وهي التي من الواجب استخارتها في كل قرار وهي سلطة غير مرئية (شبه إلهية منصوبة فوق منظومة سياسية وإدارية لاهوتية)، ومكتب هذا الوزير شبيه في الواقع بمكتب المسؤول في مسرحية خرف يا شعيب (سفرتح) حتى وإن كان ثمة شخص يرتدي بدلة وربطة عنق جالس على مكتب فاره يعج بالسكرتيرات والتلفونات، لكنه في الواقع (سفرتح)، لأن الذي يحرك هذا المكتب تلفون غامض في مكان مرعب لا يدخله أو يمر قربه إلا المنتقون من سدنة معبد العبث المقدس.

وهذا السفرتح الذي تركته حقبة من العبث هو المسعى المقدس الذي تطوف وتسعى فيه كل الصراعات الآن، ويعبث فيه تلاميذ تلك الشعائر المخلصون بالمتفرجين الذين عليهم أن يغادروا مقاعدهم، وأن يدركوا أن التغيير يأتي منهم (من لَوطا كما قال شعيب) حين ينزحون حشودا من الفرجة إلى ميدان الفعل.