Atwasat

من يتلاعب بالدولة المدنية؟!

سالم العوكلي الثلاثاء 06 أغسطس 2019, 02:28 مساء
سالم العوكلي

في مقاله "سوار الذهب والديمقراطية المنشور ببوابة الوسط، 9 يونيو 2019، يقول الكاتب عمر الككلي: "في مقالنا الذي عنوانه: التلاعب بـ "الدولة المدنية" أشرنا إلى التلازم بين الدكتاتورية والاستبداد، من جهة، والأنظمة العسكرية، من جهة أخرى، وأن "مثال عبد الرحمن سوار الذهب في السودان (الذي استلم السلطة في أبريل 1985 أثر انتفاضة شعبية وسلمها سنة 1986) استثناء يؤكد صحة القاعدة".

وأحب أن أشير هنا ــ إذا ما ذهبنا إلى جانب إحصائي عبر تجارب المنطقة عن الاستثناء والقاعدة ــ إلى أن مثال سوار الذهب تكرر في موريتانيا طوعا وبمبادرة من النظام العسكري، ويتكرر الآن في السودان والجزائر قسرا وبمبادرة من القوى الحية في المجتمع، ومن جانب آخر إذا ما رصدنا النظم العسكرية فعلا التي حكم عبرها عسكريون من خلال المؤسسة العسكرية فسنجد أنها لا تشكل ظاهرة أو قاعدة في مجالنا العربي، وهي تتمثل بوضوح في تجربة عبد الناصر وهواري بومدين وعلي صالح، باعتبار أن بشار الأسد طبيب عيون جاء للحكم وراثيا عن طريق زعامة الحزب المدني الحاكم الذي كان يتزعمه والده (حزب البعث)، وصدام حسين محامٍ على رأس حزب البعث العراقي، بينما سبق وأن فصلت في مقالات سابقة أن حكم القذافي رغم رتبته التي اشتهر بها لم يكن عسكريا بالمفهوم التقليدي لطبيعة الأنظمة العسكرية التي تُمكِّن الجيش من مفاصل الدولة؛ حيث حصة العسكريين في المناصب السيادية كانت قليلة جدا مقارنة بالتكنوقراط وممثلي حركة اللجان الثورية الذين هم من حكم ليبيا فعلا طيلة 4 عقود، بعد السنوات الثلاث الأولى من الانقلاب، بينما هو طرح نفسه كمثقف أو مفكر أو قائد ثوري طيلة فترة حكمه. وبهذه الحسبة سندرك أنه لا توجد قاعدة أو استثناء، فعدد الحكام المدنيين الذين أرسوا الاستبداد أكثر من العسكريين في المنطقة، وإذا ما حسبنا النظم الوراثية الأخرى فتجربة العسكر تكاد لا تذكر، لكن المشترك بين كل هذه السلطات غير الديمقراطية أنها أرست نظما ذات بنية كهنوتية (سواء في طبيعتها أو عبر تحالفها مع القوى الدينية) أجهضت جميعها قيام (الدولة المدنية) التي أنتجها القاموس السياسي التاريخي كبديل للدولة (الدينية)، وليس (العسكرية) ، كما يقع الخلط دائما ، وهو خلط تروجه الأحزاب ذات المنشأ الديني لتبعد شبح الدولة المدنية عنها. 

يذكر الككلي أيضا وفق شهادة الزميل المثقف حسين المزداوي الذي عمل دبلوماسيا في السودان "أن سوار الذهب لم يترك الحكم، بعد الوصول إليه، بسبب إيمانه بالديمقراطية " واعتبر هذا الحكم الجازم غيبيا ونابعا من قراءة للنوايا، ولا يعلم مدى وجاهته إلا سوار الذهب نفسه، حتى وإن صدرت عن "مصدر عليم" من مجلس قيادة الثورة فهي تقع في دائرة التخمين والحدس، خصوصا حين ترد مفردة "يؤمن"، ولو قيل: لم يكن له وعي بالديمقراطية، أو لم يخطط لها، أو غير مقتنع بها وفق تصريحات سابقة أو لاحقة له، لربما جادلنا حول هذا، لكن أن ندخل في عقل وقلب الرجل ونحكم عليه بأنه لا يؤمن بكذا أو كذا دون دليل من ممارسة أو قول له فهذا غريب بعض الشيء. بالمقابل، قد أقول دون توجس أنه (مؤمن) بالديمقراطية لأنه على الأقل عندي دلائل من إجراءات ملموسة اتخذها وهو في سدة الحكم : فهو أقر بكتابة دستور ديمقراطي يضمن التداول السلمي للسلطة، وأشرف على انتخابات ديمقراطية أنتجت سلطات مختلفة وفق الدستور الذي وافق عليه السودانيون، وانسحب من المشهد تماما، واعتزل العمل السياسي. وعموما ما حدث فيما بعد في السودان يرجع إلى كون الأحزاب الدينية كانت هي الوحيدة المنظمة، وقفزت عبر هذا المناخ الديمقراطي؛ الذي أتاحه عسكري صوفي، إلى السلطة، وذهبت بالسودان إلى سيناريوهات أخرى وإلى ما قبل المربع الأول، وهاهي السودان تعود الآن من جديد إلى مربع سوار الذهب الأول بعد عقود ضائعة، ويخوض التيار المدني صراعا مع المجلس العسكري من أجل استعادة الدولة المدنية التي قوضها حكم البشير الإسلاموي، وبحرص على الاستفادة من المتغيرات في المنطقة وعلى تلافي الأخطاء السابقة. وما يحدث في السودان والجزائر ينبئ بأن زمن العسكر ولى مثلما ولى زمن الإقطاع والعبودية، وأقصى ما يمكن أن يفعله عسكري طامح للسلطة أن يخلع بدلته ويدخل الانتخابات، ويظل المهم بالنسبة للقوى المدنية والأحزاب الفاعلة أن تشكل معارضة قوية، وان لا تتيح لمن يصل إلى السلطة أي مجال للتلاعب بالدستور.

بعد عقدين تكرر تقريبا المشهد نفسه في دولة عربية مطلة على الأطلسي، عندما أطاح في موريتانيا العسكري المغمور، أيضا، والهادئ والوفي لمؤسسته، محمد ولد فال، بحكم معاوية ولد الطايع عبر انقلاب عسكري، وبعد فترة انتقالية سلم السلطة كما وعد إلى الرئيس المنتخب، عبد الله ولد الشيخ، الذي فاز في انتخابات رئاسية أشرف عليها ولد فال بنفسه، قبل أن يترك الكرسي الوثير طوعا ويشد رحاله صوب قطعان إبله في البادية.

العام 2007 شاركتُ في مهرجان شعري بموريتانيا، وكنت فترتها معجبا بما حدث فيها من تغير ديمقراطي، إلا أني فوجئت بصمت الكثيرين هناك ــ ومن بينهم نخب مثقفة ــ ورغبتهم الخجولة في عودة العسكر، والسبب الظاهر بقوة كان الفساد الذي تفشى بشكل كبير في جميع المؤسسات، ورجعتُ متوقعا نهاية التجربة بانقلاب لأن المناخ الاجتماعي مهيأ له، وهذا ما حدث في 6 أغسطس 2008 عندما أطاح رئيس الأركان الخاصة: الجنرال محمد ولد عبدالعزيز، بأول رئيس منتخب في تاريخ موريتانيا وسط ترحيب شعبي كبير، ونتيجة لانعدام الشرعية قام بتعديل الدستور وترشح لانتخابات أجراها في يوليو 2009 وفاز فيها ليعود بموريتانيا إلى الاستبداد عبر الصندوق وعبر الدستور المطاطي، وكل ذلك نتيجة غياب الوعي الفاعل في الشارع، وضعف المجتمع المدني، وعدم قدرة القوى المعارضة الضعيفة على إقناع الناس بالبديل، كما أن الإصلاح السياسي دون إصلاح اقتصادي وإداري يؤدي إلى إخفاق التجربة الديمقراطية وكفر الناس بها.

شظايا ظاهرة الربيع العربي مازالت تحوم في فضاء المنطقة وتنتشر هنا وهناك، وبعد 8 سنوات من تلك الظاهرة التي اكتنف بعضها العنف والحروب يشكل العام 2019 الموجة الثانية من تسونامي 2011 ، وكل الأطراف تحاول أن تستفيد من أخطاء الموجة الأولى بالحفاظ على سلمية المظاهرات وإفراز قيادات سياسية لها، وبتحاشي الأنظمة المطلوب رحيلها استخدامَ العنف المفرط ضد هذه الحشود وخلق جسور حوار وتواصل للانتقال السلس. موريتانيا تحاول العودة الآن لمسارها الدستوري المنقّلب عنه، والقوى الحية في الجزائر والسودان تعمل على إنهاء مراحل حكم الحزب الواحد وعلى الوقوف أمام الإسلامويين حتى لا يستغلوا الفراغ السياسي أو الدستوري ويقفزوا إلى الواجهة ويجهضوا مشروع الدولة المدنية من أساسه. 

وكل ذلك يؤكد أن أساس الديمقراطية هو ضمان التداول السلمي للسلطة وتحصين المادة الخاصة بمدة الولاية ضد التغيير. بغض النظر عما يحدث الآن في ليبيا فإن العسكر قد يذهبون إلى نفس هذه السيناريوهات التي تُهرِّب الحاكم العسكري في جلباب الإجراءات الدستورية التي تحفظ ماء الوجه، والأمر رهن بقوة التيار المدني ووعي الشارع. كما أن نص الدستور الذي قُدم إلى مجلس النواب للاستفتاء عليه كارثة بكل المقاييس؛ لأنه من ناحية يؤسس لدولة دينية عبر أبواب ومواد مراوغة، حاكمة ومحصنة، تخص دور الشريعة الحصري في صياغة قوانين الدولة، ولأنه مليء بالثغرات التي سيعود منها الاستبداد بأي شكل من أشكاله (ديني أو عسكري أو مدني) ، وللأسف نخبتنا المثقفة وكتابنا المهمون (الذين يلحون على الدولة المدنية) لم أقرأ لهم أي نقد أو كتابة حول هذه المدونة الدستورية التي تحمل بذرة إجهاض الدولة المدنية في داخلها، فمعركتنا هنا بالضبط ولأن الجميع الراغب في السلطة في ليبيا سيأتيها عبر الدستور، وحتى لو استولت المؤسسة العسكرية على السلطة فلا يمكنها إلا أن تحدد فترة انتقالية تجرى بعدها انتخابات، وممكن أن يصاغ دستور جديد؛ إذا لهونا عنه ــ كما حدث مع السابق ــ سيُفصّل لخدمة سلطة مستبدة جديدة.