Atwasat

10 داوننج ستريت

جمعة بوكليب الإثنين 05 أغسطس 2019, 01:55 مساء
جمعة بوكليب

حين تسمع به دون أن تراه، تستحضر في ذهنك صورة تتماشى وعظمة الماضي الإمبراطوري البريطاني، فتتخيله في فخامة قصر الاليزيه في باريس، أو في أبهة قصر الكرملين في موسكو، أو على الأقل، في براح وتألق البيت الأبيض في واشنطن.

ولو كنت في لندن، ولم تكن تعرفه من قبل، لربما مررت بجوار الشارع الذي يقع فيه، من دون أن يسترعي انتباهك. وإن صادف وقادتك الظروف إليه، ووجدت نفسك قاصده، لأمر رسمي، وسُمح لك بتجاوز البوابة الأمنية في بداية الشارع، وتجد نفسك واقفاً أمام بابه، تبهر عينيك شدة لمعان طلاء بابه الخشبي الأسود. وإن كنت محظوظاً لربما قابلت قطه المشهور، مستروحاً أمام عتبته. مرحبا بكم في 10 داوننج ستريت.

بيت مجاور لعدة بيوت تصطف متشابهة، في شارع صغير، من داخل حجراته وصالاته، كانت تقرر شؤون الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس ومصائر شعوبها. يقع في منطقة ويستمنستر، على بعد مسافة قصيرة من مقر مجلس النواب، ومن أشهر عناوين لندن، وأهمها، ويكفي أن تقول لمحدثك رقم 10 ليعرف العنوان المقصود وما تعني، لأنه في ذلك البيت المتواضع الصغير، يقع مقر مكتب وإقامة رؤساء الحكومات البريطانية منذ عقود.

الإقامة العائلية مجانية، لرئيس الوزراء ولغيره من المسؤولين في حكومته وحزبه ممن يقطنون البيوت المجاورة له، لكن الدولة قانوناً لاتتكفل بتوفير الأثاث. وعلى الساكن أن يحضر معه ما يلزمه وعائلته من أثاث، ويدفع تكاليف تحميله بالشاحنة.

أول مرة دخلته، بصفة رسمية، أحسست بقفصي الصدري غير قادر على احتواء سرعة دقات قلبي، وتلبستني حالة نفسية غريبة أقرب ما تكون مزيجاً من رهبة وفرح، ووجدتني مرتبكاً، أتبع دليلي، معتليا درجات سلم إلى الطابق الأول، المزينة جدرانه ببورتريهات لكل رؤساء الحكومات السابقين.

للتاريخ رهبة، ولذلك المكان تاريخ، وبالتأكيد، فإن مواقع من سكنوه في صفحات التاريخ متفاوتة، كما يتفاوت الناس، بطبيعة الحال، في أحكامهم، ومواقفهم، وآرائهم، إيجابا وسلباً، نحو ذلك المكان، وحول تاريخه. لكنهم مهما اختلفوا، فإنهم، حتماً، يتفقون على أن 10 داوننج ستريت مركز عصب سياسي بنبض لا يتوقف، وعيون لاتنام، وتقاليد لا يمكن تجاهلها.

من تلك التقاليد، أن يكون بالمقر قط، بلقب رسمي "رئيس الفئران".! لأن قِدم المبنى (من القرن السابع عشر) جعله، بمرور الأعوام، مرتعا للفئران، وهذا بدوره قاد إلى ضرورة الاستعانة بقط، في محاولة لتقليل الضرر.رئيس الوزراء الأسبق ونستون تشرشل، أحضر معه كلبه إلى المقر. وهو، حسب اطلاعي، استثناء. وتقول الأخبار أن رئيس الوزراء الجديد، بوريس جونسون، يفكر، أيضا، في اقتناء كلب في المقر، اقتداء بتشرشل. وعرض الفكرة على العاملين معه فأعجبتهم الفكرة، ورحبوا بها. المشكلة الوحيدة التي تواجههم تتمثل في اختيار كلب قادر على العيش المشترك مع قط في ذلك المكان الصغير، وبتسامح غير معهود عن بني جنسه.

البيت الملاصق لمقر رئيس الحكومة رقم 11، مخصص لإقامة وزير المالية وعائلته، لكن مقر مكتبه يقع في مكان آخر. ويقيم في الرقم 12 رئيس هيئة الانضباط الحزبي وعائلته (The Chief Whip)، غير أن إقامة الأخير غير ثابتة مثل الأولين. ومؤخراً، تحول البيت رقم 9 مقراً لإقامة رئيس هيئة الانضباط الحزبي.

المقر تاريخياً مكونا من ثلاثة عقارات ضمت في واحد. يتكون من 3 طوابق وقرابة 100 حجرة وصالة، ويقيم رئيس الحكومة وعائلته بالطابق العلوي. صغر مساحة المكان، حتّم صغرعدد العاملين، وبالتالي فإن الجميع يعرف الجميع، من فوق لتحت، وبالعكس. لذلك، فالمناخ أشبه بالعائلي، فهو، مقر لإقامة رئيس الحكومة وعائلته، ومقر لمكتبه، ومكاتب مستشاريه ومعاونيه. ورئيس الحكومة هو من يحدد موقع المستشارين والموظفين العموميين في تلك المساحة، وأيهم أقربهم إلى موقع مكتبه. هناك نوع من التنافس التاريخي بين المستشارين وكبار الموظفين. فالمستشارون يختارهم ويعينهم رئيس الحكومة، حسب حاجته إليهم، والموظفون العموميون معينون من الدولة، وعلى عكس المستشارين، هم موظفون محترفون، محايدون، يقومون بأعمالهم بمهنية، وبعيداً عن أي تحزب سياسي، ولايهمهم من يكون رئيس الحكومة، يقدمون تقاريرهم، مستهدفين الحقيقة حتى وإن كانت لاتروق معالي الرئيس. وفي هذا السياق، تروي وسائل الإعلام حكاية طريفة عن رئيس الوزراء الحالي جونسون، حينما كان وزيراً للخارجية. تقول الحكاية إن السيد جونسون كان إذا طلب راياً في مسألة ما من أحد موظفي الوزارة، وبادر الموظف بالإدلاء برأي لا يريده الوزير، يقوم السيد جونسون بوضع راحتي يديه على أذنيه، رافضاً الاستماع إلى ذلك الرأي، ثم يبدأ في ترديد النشيد الوطني بصوت عال.

التقليد الآخر، أن رئيس الجهاز الوظيفي في الدولة هو من يكون في مقدمة العاملين بالمقر، في وداع رئيس الوزراء المتنحي واستقبال الجديد، حيث يقوده إلى حجرة الحكومة. ورئيس الجهاز مخول قانوناً بحضور جلسات الوزارة، ولايستبدل بمجيء رئيس جديد، مهما كان التغير في السياسات راديكالياً.

في البيت الأبيض، وفي قصر الكرملين، وفي قصر الاليزيه، توجد مكاتب ثابته، ومعروفة، لكل من يشغل تلك المكاتب، لكن في داوننج ستريت تأخذ الأمور منحى آخر، صار بمثابة تقليد. إذ لا يوجد موقع ثابت لمقر مكتب رئيس الحكومة، وترك الأمر لمن يترأس الحكومة في اختيار الحجرة أو الصالة التي يريدها لتكون مكتبه. يقال إن رئيس الوزراء الأسبق توني بلير اختار مكتبه من الكنبة، حتى صار وزراء حكومته يعرفون بوزراء حكومة الكنبة. واختار خليفته، جوردون براون، أن يكون مكتبه في براح يفصل المقر عن البيت رقم 12. ولم يعرف بعد المكان المفضل لرئيس الوزراء الجديد بوريس جونسون.