Atwasat

صراع على الألسنة

جمعة بوكليب الإثنين 29 يوليو 2019, 05:59 مساء
جمعة بوكليب

الرياح هذه الأيام، والسنوات التي سبقتها، لا تسير وفقاً لشهوة سفن اللغة الفرنسية في اشتباكها المزمن مع غريمتها اللغة الانجليزية، التي تكتسح المزيد من الحدود، كل يوم، وتسابق الرياح في سرعات انتشارها وتوغلها في ألسنة وعقول وقلوب سكان الدنيا، وفي كل المجالات.

المعركة المتواصلة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بين اللغتين، كانت، منذ انطلاقها، تشير إلى أن اللغة الانجليزية، تحت رايات أنجلو –أمريكية، سوف تتمكن من تجاوز كل العراقيل والمطبات، في العلوم، والثقافة، والفن، والآداب، والتقنية. لكن الفرنسيين، لن يقبلوا بحقائق الواقع، وستواصل اللغة الفرنسية مشوارها الصعب، ولن تعترف بالهزيمة، وتستمرحرب المقاومة والاستنزاف، التي أشعلها وقادها الجنرال تشارلز ديجول، وجيش من أساطين البيان اللغوي، وعشاق اللغة الفرنسية، الذين يعرفون أن تاريخ فرنسا المجيد بُني على أساسين البندقية واللغة الفرنسية. وأن سحب اللغة الانجليزية البساط من تحت أقدام اللغة الفرنسية يعني إصابة التاريخ والمجد والسيادة الفرنسية في مقتل.

كان الجنرال الفرنسي ديجول على وعي بالخطر المحدق بفرنسا لدى خروجها منهكة من الحرب العالمية الثانية، رغم الانتصار، الذي بدأت تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، بإمكانياتها الاقتصادية والعسكرية الهائلة، التي مكنتها من تنصيب نفسها على ذروة العالم الغربي الرأسمالي. وكان الجنرال يرفض أن يرى فرنسا بكل تراثها وفنها وتاريخها وثقافتها وقد تحولت إلى دولة تابعة، تدور في مدار دولة جديدة، قوية عسكريا واقتصاديا، لكنها بلا جذور ضاربة في تربة التاريخ الإنساني وحضارته كفرنسا. لذلك، بدأ حرب المقاومة، بتأكيده على السيادة الفرنسية، والقرار الفرنسي، وحماية المصالح الفرنسية، أينما وجدت، وخاصة نفوذها التاريخي في مستعمراتها السابقة. وكانت اللغة الفرنسية إحدى أسلحة تلك الحرب.

في عام 1958 ازداد التوتر في العلاقات بين البلدين نيتجة لزيادة الهيمنة الأمريكية على حلف شمال الأطلسي كتب الجنرال ديجول رسالة إلى الرئيس الأمريكي آيزنهاور وأخرى إلى رئيس الوزراء البريطاني مكميلان عارضا قيادة ثلاثية من البلدان الثلاثة لحلف الأطلسي، ومعلنا رغبة فرنسا في أن يكون لها دور مساوٍ لأمريكا وبريطانيا في الحلف. كانت فرنسا، وقتذاك، تخوض بأقدامها في حرب دامية، في الجزائر، ووقفت الدولتان الأخريان موقف المراقب من بعيد، ولم تحركا ساكنا لنصرة فرنسا، رغم وجود قوات الأطلسي في أراضيها.

في عام 1966 طلب ديجول من الرئيس الأمريكي ليندون جونسون سحب كل القوات الامريكية المتواجدة في الأراضي الفرنسية، فرد الرئيس جونسون متسائلا إن كان طلب الخروج يقتصر على الجنود الأحياء فقط أم يطال حتى جثت الذين قتلوا في معركة تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، ودفنوا هناك!
رئيس الوزراء البريطاني مكميلان قال معلقاً إن فرنسا صفحت عن ألمانيا الدولة التي احتلتها وغير مستعدة للتسامح مع محرريها. لكن الجنرال ديجول واصل طريقه غير مبال، وخرج ببلاده من الحلف الأطلسي. وعلى الجانب الآخر، من المعركة، ظلت فرنسا حريصة على محاربة تسلل الكلمات الانجليزية إلى لغتها، فمنعت استخدام المفردات الانجليزية التي جاءت بها موسيقى الروك آند رول، وما تنتجه استوديوهات هوليود من أشرطة سينمائية، وشجعت علماء اللغة على إيجاد مرادفات لغوية علمية فرنسية في مجال العلوم والتقنية، وزادت في ميزانية الإنفاق المخصصة للتشجيع على نشر اللغة الفرنسية في العالم، من خلال فتح مراكز ثقافية فرنسية، ومدارس فرنسية، وغيرها.

لكن يبدو أن صدوعاً خطيرة، جديدة، تدعو للقلق، بدأت تظهر على جدار المقاومة الفرنسي، أخطرها كان في شهر نوفمبر عام 2009 حين طلبت رواندا الفرانكفونية الانضمام إلى منظمة دول الكومنولث، ولاقى طلبها القبول، لتصير الدولة الخامسة والخمسين في عضوية الكومنولث. وآخرها ما تناقلته وسائل الإعلام العالمية من تطورات مهمة حدثت في واحدة من أكبر الدول الفرانكفونية، ونقصد بها الجزائر حيث أصدر وزير التعليم العالي الجزائري هذا الأسبوع، قراراً يقضي بتغيير لغة المراسلات الرسمية في الجامعات الجزائرية من الفرنسية إلى اللغة الانجليزية. 

الجامعات الجزائرية كانت تستخدم اللغتين العربية والفرنسية في جميع المراسلات والوثائق الرسمية حتى صدور القرار مؤخراً.

وزير التعليم العالي الجزائري قال إن إسقاط اللغة الفرنسية كان جزءًا من سياسة تهدف إلى تشجيع استخدام اللغة الإنجليزية. وأضاف الوزير أن القرار جاء استجابة لمطالب الطلاب الذين يرغبون في أن تعتمد شهاداتهم بسهولة أكبر في الخارج.

يبدو أن شدة الصدمة الفرنسية من القرار الجزائري، مضافاً اليها موجة ارتفاع حرارة الطقس، السبب وراء الصمت المطبق الذي قابلت به باريس القرار.