Atwasat

"اغتصاب ذاكرة المكان"!

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 28 يوليو 2019, 01:24 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

في ورقته* "الهوية الليبية: مبحث في نشأة الدولة الترابية" يرى د. محمود أبو صوة أنه "في تراثنا العربي الإسلامي لم ينظر للأرض كركيزة أساسية من ركائز الدولة فقد نظر الجميع للأرض كمصدر للقوت ولقوة السلطان من ذلك فان ابن خلدون مثلا والذي خص موضوع الدولة بفصول كثيرة من مقدمته شدد على أن ركيزتي الدولة هما العصبية والملك!" ويقرر أن هذه مسألة لا تقتصر على المجتمعات العربية الإسلامية وإنما هي ظاهرة عامة مرت بها المجتمعات كافة. فـ "الدولة الحديثة في أوربا ظهرت قبل ظهور الحدود السياسية" المقترن ظهورها باتفاقية وستفاليا سنة 1648م، ولم يجرِ ترسيم الحدود السياسية، التي كانت قيد عمليات مد وجزر، بشكل "نهائي" إلا في فترة متأخرة. والمقصود بالحدود السياسية هي الخطوط التي ترسم بين دولتين، على خلاف ما يسميه د. محمود "التخوم"، أي التضاريص والمظاهر الجغرافية، مثل الأنهار والجبال والبحيرات، التي تفصل بين دولتين.

إلا أن المؤسسات العلمية في الغرب "تفطنت منذ زمن لدور المجتمعات في صناعة الإقليم الذي استمدت الدولة الحديثة منه هويتها". ويشير إلى أن عدم الاهتمام بسيرورة "تشكل التراب الليبي [...] له علاقة برهان الأنظمة السياسية على أنموذج الدولة – الأمة" وهو رهان لم يُعد فيه الدارسون الليبيون النظر بجدية. لأن "التراب [...] فكرة من المفترض أن تشغل السياسي وغير السياسي ذلك أن التركيز على التراب قادر على تحويل فكرة التراب إلى مشروع ثم إلى مصير".

وإذن، فمفهوم الدولة الترابية، وعلى غرار مفهوم الدولة – الأمة "من مبتكرات المؤسسات البحثية الغربية؛ فبفضل الغرب وبفضل قوته الناعمة نكتشف الآن أي بعد أكثر من ستين سنة على ظهور ‘‘الدولة الحديثة في ليبيا‘‘ بأن الدولة لا علاقة لها باللغة أو العقيدة رغم أهميتهما ولكن لها علاقة بالتراب".

في السياق الليبي يرى د. محمود أنه قد تم "تجاهل دور الأرض في صنع هوية كل الليبيين" ولقد سار النظامان اللذان توليا أمر ليبيا بعد الاستقلال على هذا النهج "فالملك إدريس لم يكن يرى من ليبيا سوى برقة أما القذافي (القائد الأممي) فقد ألغى شيئا اسمه ليبيا!". هذا من شأنه إعاقة عملية بناء الدولة "فالأرض هي أساس الدولة" لذا فتجاهل مراحل تشكل الدولة الترابية Territorial State الليبية من قبل غالبية السياسيين والباحثين القانونيين الليبيين موقف يخلو من النباهة والحكمة. و "أن الاستمرار في تجاهل محورية الأرض في بناء الدولة سيطيل عمر الأزمة التي تتربص بالبلاد والعباد". ويرى أن التيارين الإسلامي والقومي قد عمقا هذا البعد، لأنه وفق رؤيتهما "لا وجود لشيء في الأساس اسمه التراب الليبي؛ فليبيا هي جزء من دار الإسلام أو جزء من دار العروبة!". وفي هذا الشأن يذكرنا د. محمود بما قاله "القذافي في أكتوبر من العام 1997 عندما طلبت الجزائر ترسيم حدودها مع ليبيا بأنه لا يعترف بالحدود الموروثة عن الاستعمار مع أية دولة عربية". كما "أن استمرار تجاهل صناع القرار لمرحلية التشكل، تشكل التراب الليبي السابق لظهور الدولة، أسهم بشكل مباشر أو ضمني في اغتصاب ذاكرة المكان".

لقد ارتبط تأسيس الدولة الليبية الحديثة، وفق د. محمود، بالغرب. إيطاليا تحديدا، التي حرصت على اتخاذ الساحل مقراسياسيا لها، وهذا جعل الليبيين يستسلمون "لفكرة اقتران الدولة (الدولة- الأمة) بإقليم الساحل". ويعزز د. محمود ملاحظته هذه بالإشارة إلى حرص الليبيين على التكدس في شريط ليبيا الساحلي والإصرار على أن تكون عاصمة البلاد مدينة ساحلية (طرابلس أو بنغازي) ويجد فيه تفسيرا لـ "عجز الليبيين عن التحرر من تاريخية العلاقة الاقترانية هذه". وهذا يعني أن الساحل اعتبر "موطن الدولة – الأمة [أي] مركزا والداخل قبرا أجوفَ /طرفا" وينذر د. محمود "أن استمرار هذه الثنائية سوف يعمق الفجوة الأمر الذي قد يعرض مكوني المجال (التراب والشعب) للتفتت والانقراض".

* ورقة مخطوطة تفضل د. محمود أبو صوة بمدنا بها. كل ما هو محصور بين علامتي التنصيص "..." مقتبس حرفيا من الورقة، ولم نرَ داعيا إلى الإحالة إلى أرقام الصفحات.
لأخذ فكرة أفضل عن منهجية د. محمود الكتابية ورؤيته للتاريخ، انظر عمر أبو القاسم الككلي:
- تلبية الدعوة http://alwasat.ly/news/opinions/138331?author=1
- إعادة كتابة تاريخ ليبيا الوسيط http://alwasat.ly/news/opinions/237555?author=1
- الطبيعة السكانية للمجتمع الليبي http://alwasat.ly/news/opinions/249583?author=1