Atwasat

الحرب النازحة

نورالدين خليفة النمر الأحد 28 يوليو 2019, 01:22 مساء
نورالدين خليفة النمر

يتفاقم النزاع الليبي ـ الليبي، ويتصلب عوده في ظل الغموض المفهومي الذي أطبقت به الدكتاتورية ـ الأوتوقراطية لـ 42 عاماً على المجتمعية الليبية، لتستلمه الفوضوية المُدّعية الثورية بعد الحدث التغييري عام 2011، فيصدق عليه المثل "الماء يسري من تحت التبن".

يغيب البحث الاجتماعي العلمي، وتسود النزعة المؤسفة لدى المثقفين الواقعيين إن وُجدوا في أن يتركوا لآخرين، تعوزهم الكفاءة والمسؤولية؛ بل ضمير الوطنية، حقل الفعل. لربما تكون استقالتهم أمام مشكلاتٍ لا تتيح حلولًا دقيقةً بالمطلق سببًا في هذا الشكل من فقدان الثقة في الفعل السياسي لدى بعض فئات الرأي العام. فيشرع الباب واسعاً لوسائط الإعلام، التي تغيب عن جُلّها المصداقية لأسباب عديدة, فتكون معبراً لتداول أرقام مبالغ فيها، تسندها توصيفات متعجلّة تمّ استيرادها من بيئات نزاعية مختلفة، عن الواقع الليبي مابعد ثورة الـ 17 من فبراير، الذي تم اصطناعه بالتدريج لتبرير النزاع الذي له مآرب أخرى، تخدم نزعات السلطوية، والغنائمية .

فقد تداولت الوسائط الإعلامية الليبية بعد انتصار الثورة الشعبية 2011 توصيفات متعجلّة للنزاعية الليبية مصطلحات تعوزها الدِّقة المفهومية بل القانونية، ويكون من التعسف ملاءمتها مع الحالة الليبية: كالعدالة الانتقالية، والمُصالحة والعزل السياسي ومصطلحات مفاهيمية. أحدثت إرباكاً في منظومة التوصيف السائدة في تداولية المنظمات الدولية والإنسانية للظواهر النزاعية كالتهجير الداخلي وتغيير الديموغرافيا بسبب مايمكن وصفه بـ "الحروب الصغيرة" المتنقّلة. فالأوّل ظهوراً كان مصطلح المهجرّين، وهو ما يعبر عن التهجير بسبب الدافع العنصري وعناصره شبه مستبعدة كُليا في المجتمع الليبي لعوامل اللغة والدين والتجربة التاريخية المشتركة. وبعد انتصار الثورة الليبية 2011. تمّ تداول مصطلح التهجير لتوصيف حالات ليبية، أبرزها ماحدث في بلدة تاورغا. حيث ارتكب الجنودالتاورغيون في كتائب النظام الساقط فظاعات ورّدة فعل المصارتة بعد انتصار الثورة وانتقاماتهم التي طالت الفعلة وامتدت لأسرهم وذويهم. تلك التي أخدت صدىً دولياً، وترويجها كحالة عنصرية إزاء لون البشرة ولكنها لم تجد العناصر التي تبثها في هذا السياق. كذلك وجود حالتين محدودتين لم تتعدّيا نطاق الجبل الغربي واحدة مست عشيرة المشاشية بقرية زاوية الباقول في بلدة الخلايفة الذين هُجروا بسبب نزاعهم مع الزنتان، و قبيلة القواليش هُجرّوا من بلدتهم بسبب نزاعهم مع ككلّة. اليوم بسبب الحرب على طرابلس يظهر مصطلح جديد هو "النازحون" ليعبر عن تحريك ديموغرافي يتسم بنوعٍ من الغرابة المخصوصة بالنزاع الليبي ـ الليبي.

يندرج النازحون في أدبيات المنظمات الإنسانية، في خانة مخففة مقارنة باللاجئين. فهم ليسوا كاللاجئين الذين غالباً ما ينتهي بهم النزوح، في المخيمات، خارج الحدود السياسية لبلدهم الأصلي. إذ المعتاد في تجارب نزاعية مختلفة، أن الغالبية من النازحين تحل ضيفة على أسر مضيفة، ويجد البعض مأوىً مؤقتا أثناء الترحال، في حين يستقر البعض الآخر في المناطق الحضرية وينتقل النازحون داخلياً في كثير من الأحيان عدة مرات أثناء نزوحهم وتخلق هذه الأنماط المتنوعة والديناميكية تحديات كبيرة أمام متابعة تحركاتهم .

كل هذه التحديدات الفضفاضة،لايمكنها أن توّصف، ما أطلقنا عليه الحرب النازحة ونعني بشكل أدّق ديموغرافيتها النازحة في سياقها الليبي. وهي ديموغرافيا نزاعية أرقامها مشكوك فيها تُسند اعتباطاً إلى وكالات الأمم المتحدة، التي تتسقط معلوماتها من مكاتبها في تونس عبر وسائط محلية، تعوزها الإمكانات البشرية، والخبرة، والوسائل اللوجستية المادية. ورغم صعوبة إسباغ وصف الحرب الأهلية على النزاعيات المجتمعية في الغرب والجنوب الليبي. فحتى إن أطلقناه فباستثناء تلك التي تأخذ شكل صراع عسكري حقيقي بين فريقين، فإنّ الدراسة الكميّة للآثار الديموغرافية للحروب الأهلية هي أكثر صعوبة من دراسة آثار الحروب الدولية.

تبدو الغرابة في قصة النزو ح بسبب الهجوم بأسم مُسمى الجيش الليبي على طرابلس منذ 14 أبريل 2019 ، أن مصطلح النزوح لم يُعد متداولاً إلا في تصريحات متتالية لعميد بلدية سرت، بخصوص صرف أموال لما قدره مصدر بمكتب وهمي للشؤون الاجتماعية بسرت، بأن إجمالي أعداد الأسر النازحة جراء الاشتباكات بضواحي العاصمة طرابلس إلى بلدية سرت وصل إلى أكثر من 427 عائلة نازحة. المفترض من مكتب الشؤون الاجتماعية بسرت ،أن يوثق المبالغ المصروفة بكشوفات مدققة بعدد أفراد كل عائلة، وكيف أنهم لم يحتاجوا إلا مبلغاً زهيداً هو الـ 1000 دينار، وقفاف غذائية. ولم يتم التطرق لأكبر مشكلة تواجه النازح، وهي مشكلة السكن، وهذا يؤكد ماذكرناه سابقاً بأنهم ليسوا بنازحين، بل هي أسر عادت إلى بيوتها، واندمجت بشكل سلس في مجتمعها القرابي الأصلي في بلدة سرت.

تنص المقاربات الحقوقية والقانونية التي تنتهجها المنظمات الدولية والإنسانية على حماية السكان من النزوح وأثناءه بصفتهم مدنيين، شريطة ألاّ يشاركوا مباشرة في الأعمال العدائية. ولكن لا توجد صور للعائلات النازحة إلى سرت، تنفي عنهم الصفة القتالية. ربما مخافة أن تكشف الصور أن أرباب الأسر مازالوا في قلب المعركة كونهم جنوداً سابقين في الكتائب الأمنية لحماية النظام الذي أسقطته الثورة الشعبية الليبية 2011؛ بل إن صورة متداولة في محرّك البحث Google"" تعبر عن خط نزوح طرابلس عبر بني وليد إلى سرت، يقابله رتل سيارات فوقها مدافع متجه إلى طرابلس.