Atwasat

مـاء ليبيا.. تسييس وحرابة

نورالدين خليفة النمر الأحد 21 يوليو 2019, 12:41 مساء
نورالدين خليفة النمر

استلمت الفوضوية المجتمعية، بعد إسقاطها الدكتاتورية الأوتوقراطية في ليبيا عام 2011، مشروع النهر الصناعي بكل الحمولات السلبية المُسيّسة التي رافقته، والتي غيّبت ربما إيجابياته في حل مؤقت لجزءٍ من الفقرالمائي الليبي. كان من المفترض أن يقابله التفكير في بدائل مائية موازية كتحلية مياه البحر. تجربة نجحت فيها دول نفطية مهددة بالمشكلة كـ : ليبيا. إلا أن مستجّد الانقسامية بدأ في الآونة الآخيرة يحيل ماء النهر الاصطناعي إلى مُشكل حرابي يساهم إلى جانب حرابات أخرى في إذكاء الاحتراب الليبي ـ الليبي.

يرصد تقرير للأمم المتحدة التحديات التي تواجه موارد المياه في العالم، ولايشير للعامل النزاعي البشري، المجتمعي والسياسي ينبّه فقط إلى أنه لا يوجد إطار إداري تعاوني لثلثي أنهار العالم العابرة للحدود السياسية. فالنزاعات السياسية بين الدول،هي التي صُمّمت للمساهمة في حلّها، جهود الأمم المتحدة. ثم تلتها الانقسامات الأهلية في البلد الواحد، التي تستقطب الاهتمام الإقليمي والدولي. وهذا ما توضح في دعوة نائبة رئيس البعثة الأممية في ليبيا إلى توصل الليبيين فيما بينهم لحلول محلية بشأن أزمة المياه، وتعني استعداد البعثة لتقديم الدعم في توفير الأمن اللازم لمنظومة النهر الصناعي بفرعيها الحساونة ـ سهل الجفارة، والسرير ـ سرت، التي يستهدفها بشكل متصاعد في الآونة الأخيرة نشاط حرابي متنوع من نهب المياه لاستهلاك الزراعة في جنوب سرت، إلى ضغط ميليشيات قبائلية على العاصمة طرابلس لإطلاق أبنائها المتورطين في جرائم جنائية، ثم الرّد على عدم وصول الخدمات للجنوب مثل التيار الكهربائي المقطوع عن طرابلس نفسها.

الانتباه لمورد الماء المخزون في صحراء ليبيا جاء مع صدفة اكتشاف النفط عام 1953 فعلى هامش التنقيبات الأولى تبين للشركات الغربية وجود مخزون هائل من المياة الجوفية النقية في مناطق الجنوب الشرقي و الجنوب الغربي في الصحراء الليبية، يصل إلى معدل استهلاك سنوي 2 مليار متر مكعب من المياة. يمكن استغلاله لتنمية الجنوب، والوسط ، بينما يتم تغذية الشمال الليبي بتقنيات تحلية مياه البحر. ولم يتعدَّ الأمر صيغة الاتفاق. وفي عام 1960 تم طرح فكرة مد المياة إلى الشمال عبر خطوط أنابيب، لكن لم تلتفت واحدة من الحكومات الملكية إلى المشروع لتكلفته المالية وأضراره البيئية.

في أكتوبر عام 1983، فاجأ دكتاتور ليبيا المُسقط نظامه بالثورة الشعبية 2011 الليبيين، للتغطية على فشل المشاريع الزراعية في عشرية السبعينات، وتبدّد آمالها في سراب الصحراء، بأن حل المشكل المائي يتأتى بتنفيذ الفكرة القديمة عبر حفر 279 بئرا عملاقا في أماكن المياة الجوفية ومد خطوط الأنابيب مجموع طولها 4000 كيلومتر من واحات الكفرة والسرير بالجنوب الشرقي ومن واحات فزان وجبل الحساونة في الجنوب الغربي على أن يتم تدعيم الخطوط مستقبلاً من غدامس والجغبوب، لغرض تغذية الساحل الليبي الشمالي بالمياه.

رافقت بدء التنفيذ في 28 أغسطس عام 1984 بروبغنادا إيديولوجية وصفته بالمعجزة الثامنة . تماهت مع يوتوبيات نظرية الكتاب الأخضر، وسياسية وضعت المشروع في دائرة التحدي، إذكاءً لمزايدات النظام الليبي المتطرف على الدول النفطية العربية، كالمملكة السعودية التي تمنّعت عن التمويل، ولعداواته للغرب وأمريكا، واستلهامه في ذلك للموروث الناصري الذي اصطبغ بمشروع السد العالي في مصر. ولكن بحكم صلتي بالإعلام الخارجي وقتها علمت أن الشركات الموقعة على الاتفاق إزاء الطرف الليبي كانت أمريكية هي مؤسسات براون آند بروت (كي بي آر فيما بعد) التابعة لمؤسسة هاليبورتن للطاقة و (برايس برازر). بينما تولى مقاولات التنفيذ اتحاد شركات في الظاهر كوري جنوبي وفي الباطن أمريكي و أوروبي.

المواطنون الليبيون المعنيون بهذا المشروع، قابلوا الدعاية السياسية للمشروع بفتور، بل تجاوزوه إلى تذمر مكظوم بسبب ضريبة النهر المقتطعة من المرتّب الشهري، المُضافة إلى ضرائب لاعد لها، كالدخل، والجهاد، وقفص الدجاج. وإضافة إلى رسوم على أوراق المعاملات الرسمية، والمستندات. بل تعدى الأمر إلى السخرية من المشروع، فاستبدلوا سم النهر العظيم، بالأنبوب (الطوبو). بل روّجوا لنبوءة شعريه بأن النهر لن يملأ قربة راعي بدوي من قبيلة المقارحة التي ينتمي لها العضو الثاني، الذي ضغط مع رفيقه في قيادة النظام الانقلابي على زرّ احتفال البداية. بعد الغارة الأمريكية على ثكنة باب العزيزية بالعاصمة طرابلس، تفتّق مخيال التوجسات الليبي عن أن يكون تصميم اتساع آنابيب النهر، وامتدادها وسيلة لهروب رأس النظام إلى دولة أفريقية مجاورة. آخر ضروب التسييس في التسعينيات،إقحام الدكتاتور إمكانية فشل النهر الصناعي، بسبب مشاكل واقعية في وقاية الليبيين من العطش، وأن الحل النهائي لهم هو الهجرة إلى البلاد التي بـها مصادر المياه مثل مصر وتشاد، وأنه سيمنح عشرة آلاف دولار حصتها من النفط كل عائلة تُلبي رغبته.

إلى جانب وظبفتيهما أستاذين بكلية الزراعة تولى ابن بلدتي الذي صار فيما بعد أمينا للزراعة، مسؤولية الإشراف على مشروع النهر الصناعي في المنطقة الغربية، سهل الجفارة وابن عمي من بداية المشروع أشرف على قسم المياه والتربة، وبناءً على المقالات التي كنت أطلع عليها،في ألمانيا، سألته عام 2000 عن مستقبل النهر الصناعي، فأجابني إذا اقتصر فقط على أن يكون مصدراً لمياه الشرب. لكن الاعتداءات المتكررة التي تصاعدت صيف 2019 من أصحاب المزارع على طول الخط بتتبيث وصلات غير قانونية، سببت في عدم التزام فتحات التغذية بكمية معينة. وهذه مؤشرات تتبت تهاونا في الاقتصار على الشُرب ـ هذا إن وجد أساساً ـ على خط النهر الصناعي بطول حوالي 402 كيلو متر بين أجدابيا وسرت. دون الأخذ في الاعتبار العطش، الذي يهدد سكان العاصمة طرابلس البالغ عددهم أزيد من1.158 مليونًا نصفهم دخلاء عليها منذ عام 1970 يثقلون كاهلها. بينما عطش سرت هو الذي توضع له الحلول كتحلية مياه البحر، بينما سرت البلدة التي التبست إهاب العاصمة السابقة، تضم 70 ألف نسمة بمن فيهم الأكثر من 370 عائلة عائدة إليها، بسبب الحرب على تخوم طرابلس منذ أبريل 2019 لتنضاف لسرت مشكلة بيئية أسوأ من مشاكلها السابقة السياسية بإيواء أنصار النظام الدكتاتوري المُسقط والأمنية كونها كانت الإمارة الأولى لتنظيم داعش الإرهابي.