Atwasat

سفراء ورؤساء

جمعة بوكليب الإثنين 15 يوليو 2019, 11:50 صباحا
جمعة بوكليب

خلال التسعينيات من القرن الماضي، كنت كثير التردد على مقر الأرشيف القومي البريطاني، في "كيو جاردنز"، قرب ريتشموند، غرب لندن، للاطلاع على الملفات الرسمية البريطانية حول الأوضاع في ليبيا. 

جرت العادة، أن تقوم الحكومة بالإفراج عن الملفات الرسمية بعد مرور ثلاثين عاما عليها. ولا يستثنى من ذلك إلا الملفات ذات الصلة بالأمن القومي. وكانت تلك الملفات تحال إلى مقر الأرشيف القومي، لفهرستها، ولتكون في متناول الباحثين وغيرهم. 

كانت الملفات الليبية، شديدة الأهمية، لأنها كانت تشمل مراسلات رسمية، وتقارير كتبها السفراء، والقناصلة العامون، والملحقون وغيرهم، عن الأوضاع في ليبيا، وما يحدث فيها من تطورات سياسية واقتصادية وغيرها، إبان حكم القذافي. وكانت، تلك الملفات، بالنسبة لي النافذة الوحيدة المتاحة، التي أطلُ منها على ما كان يحدث في جماهيرية القذافي، من مصائب وبلاوٍ. وأذكر أن من بين تلك الملفات كانت التقارير التي يكتبها السفراء أكثرهم استقطابا لاهتمامي، لما تحويه من معلومات، ووجهات نظر في العديد من القضايا والمواضيع المهمة. وعبر سطورها، وما بين سطورها، عرفت الكثير، وتعلمت الكثير، وصرت على بينة بما كان يحدث في دهاليز بلد مغلق الأبواب والنوافذ. وأشهد أن الكثير من تلك التقارير قدمت قراءة ذكية للأوضاع، وأن ما خلصت إليه من استنتاجات، ونتائج، كان في جله ليس بعيداً عما حدث، فيما بعد، كما أبانت الأيام. 

ما دعاني للحديث عن هذا الموضوع، الضجة التي أثيرت، مؤخراً، على جانبي الأطلسي، بين لندن وواشنطن، الحليفين التاريخيين، حول تسريب تقارير سرية بعث بها السفير البريطاني في واشنطن السير كيم داروك إلى رؤسائه في وزارة الخارجية والكومنولث، وتتعلق بآرائه في إدارة الرئيس ترمب. التقارير سربت إلى صحيفة الديلي ميل والتي بدورها قامت بنشرها، الأمر الذي تسبب في إثارة غضب الرئيس الأمريكي ترمب، ولجوئه إلى الرد عليها، في تغريدات على حسابه بموقع تويتر، تعرض فيها للسفير شخصياً بأوصاف غير دبلوماسية. الأزمة تطورت بسرعة، وانتهت بقيام السفير البريطاني بتقديم استقالته، بعد منعه من دخول البيت الأبيض.

وبغض النظر عن تفاصيل ما حدث من ردود أفعال في لندن، وما جرى من حسابات تتسم بكثير من الخبث من قبل بعض سياسييها، خاصة المرشحين لتولي زعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة، إلا أن المسألة، في نظري، لم تعد مجرد شرخ بسيط في جدار علاقة تاريخية بين بلدين حليفين، لكن تأثيراتها تتجاوزهما، لتطال طبيعة العمل الدبلوماسي، والمهام المنوطة بأصحابه، وأدوارهم في تنمية وحماية مصالح بلدانهم.

وفي هذا السياق، قرأت مرة، في تقرير إعلامي، أن وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، جورج شولتز 1982-1989، في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريجان، كان حريصاً على دعوة كل سفير أمريكي معين للعمل بالخارج إلى مكتبه قبل سفره. ويقال إن شولتز كان يطلب من السفير المعين أن يحدد، على الخريطة، البلد الذي سيخدمه. وكان السفراء المرشحون يظنون أن الوزير شولتز يمتحن معلوماتهم الجغرافية، فكانوا يقومون بوضع العصا على خريطة البلد الذي يقصدونه. وكان رد شولتز أن يأخذ العصا الصغيرة من السفير المرشح، ويضعها على خريطة الولايات المتحدة الأمريكية، وقائلاً له: هذا هو البلد الذي ستخدمه.

شولتز كان وزيراً مخضرماً، عمل في ثلاث إدارات أمريكية، وتولى عدة مناصب وزارية، وكان على دراية ووعي بالعمل الدبلوماسي، وأعتقد أن إدارة الرئيس ترمب تفتقد لأشخاص من نوعية شولتز، قادرين على تسيير دواليب الحكومة، وتقديم المشورة للرئيس على الوجه الصحيح. 

ولا أعرف، على وجه التحديد، طبيعة التقارير الدبلوماسية التي يبعث بها سفراء واشنطن إلى وزارة خارجيتهم، لكني متأكد أنها لا تختلف في طبيعتها عن التقارير التي بعث السفير البريطاني. ولعلنا نتذكر ما أظهرته ملفات ويكيليكس من خبايا تلك التقارير، خاصة المتعلق منها بليبيا زمن القذافي، والأوصاف التي أطلقها السفير الأمريكي في طرابلس عن العقيد ونظامه، ثم ما حدث من ردود أفعال من قبل أعضاء اللجان الثورية، الذين كانوا يتعرضون للسفير لدى قيامه بالتريض في ميدان الفروسية، ويصفونه بالجاسوس!

ليس من مهام السفراء الموفدين للعمل في الخارج التغزل في رؤساء الدول المضيفة، لأنهم، أولاً وأخيراً، مكلفون بمهام حماية بلدانهم ومصالحها، وتزويدها بالمعلومات عن كل ما يستجد في البلدان المضيفة لهم من أحداث وتطورات.

يبدو أن فترة حكم الرئيس ترمب ستكون علامة فارقة بين عصرين، أو زمنين، في مجال الحكم. فترمب رجل أعمال، عاش كل حياته المهنية، صعوداً وهبوطاً، في عالم الصفقات التجارية، والتنافس الدموي على عقد الصفقات، وتصفيات الخصوم وطردهم من السوق، والبحث الدائم عن الربح، باختلاف الوسائل. وقد تكون هذه العقلية التجارية، غير الديمقراطية، بحسابات الربح والخسارة الآنية، وراء ما تمر به الإدارة الأمريكية من تخبط، وإرهاق شديد.

وأعتقد أن رجال البيت الأبيض، وأركان الحكومة، صاروا يدركون، بعد هذه التجربة القصيرة والمتعبة، أن عليهم أن يتابعوا تغريدات الرئيس على موقع تويتر، أولا بأول، إذا أرادوا معرفة الطريق الذي تسير فيه الأمور في كل القضايا، وحتى لا يجدوا أنفسهم واقفين في الموضع الخطأ من موقف رئيس بمزاج متقلب، وحاد، ولا يتردد في اتخاذ قرارات آنية، قد تسبب في أزمة، أو تثير زوبعة، كما فعل، بتغريداته، في قضية السفير البريطاني.