Atwasat

الهزيمة التي تختار الانسحاب

نورالدين خليفة النمر الأحد 14 يوليو 2019, 03:09 مساء
نورالدين خليفة النمر

الكتابات العسكرية، تتعلق بالجيوش النظامية، وليس بالميليشات، وتوّضح أساليب الحروب العسكرية الفعلية، بينما،لا تتحقق في الهجمة على طرابلس شروط الحرب بالمعنى العسكري وبشقيها الهجومي والدفاعي، فهي نزاع أهلي وإن اتخذ الطابع العسكري، إذ لا توجد به قوة اقتحام، ولا قوة دفاع حقيقية. فقط هجوم ودفاع بالطيران، والضرب بالصواريخ من بعيد. ربما المعركة شبه الميدانية على الأرض التي حسمتها الطيّارات المُسيرة التركية كانت غريان، التي تخلّت عنها القوة المحتلة لها بعد الهزيمة الثقيلة التي تكبدّتها القوة القبائلية الملفقّة، التي كانت مندرجة سابقاً بكتائب النظام المُسقط بالثورة الشعبية 2011 . بأن لملمت شعثها، كقوة مساندة بمن انضم لها من متطوعين، بصفة مرتزقة استدرجهم مُسمى الجيش الوطني، الذي لايعدو أن يكون الميليشيا التى تسمت بـ : بقوة الكرامة في الشرق الليبي إزاء غرمائها الميليشيات الجهوية والدينية والحرابية المسيطرة على العاصمة هدف الهجوم.  

تصف الكتابات العسكرية المبسطة تكتيك انسحاب الجيش من المعركة، بأنه مناورة تراجعية اختيارية، فهو تخلص المجموعة المقاتلة وابتعادها عن منطقة القتال بعد انتهاء مهمتها بشكل مدروس وآمن. ويظهر التكتيك أيضا في الانسحاب، نتيجة تطور معاكس في ميزان القوة ويكون الانسحاب هنا دفاعاً عن النفس، بالخروج من القتال، بواسطة عملية تستهدف الانفكاك من التماس مع العدو، لغرض تعديل ظروف القتال، وتتضاءل اختيارية تكتيك الانسحاب حتى تكاد تنعدم عندما يكون نتيجة خسارة المعركة.  

لايمكن تهوين خسارة غريان، بأنها تكتيك انسحاب، وأنها لا تؤثر على العملية العسكرية المستهدفة العاصمة طرابلس، بأكملها، الذي بدأ من ثلاثة محاور ولم يبق منها إلا المحور الجنوبي الشرقي ترهونة. لقد تعدت خسائر الهجوم على طرابلس في العموم 691 قتيلاً. وكما دُحر من الغرب في عملية التفاف محدودة التوقيت طالت قوته المهاجمة لجنزور على تخوم طرابلس، فكلفتها العشرات من الجنود الذين سلموا أنفسهم للمجلس العسكري في مدينة الزاوية، وخسارة أكثر من 40 آلية عسكرية حديثة، غنمتها القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني. وهاهي خسارة غريان تبهظ التكلفة البشرية في القوة المهاجمة في ساعات بالعدد الذي لايمكن تقديره من الـ 691 قتيلاً.

التاريخ يكرّر نفسه بسقوط غريان السهل في أيدي القوات المنضوية تحت ميليشيات الكرامة بمسمى الجيش الوطني الليبي 14 أبريل 2019 ، ولكن لايُكرّر استردادها السهل من القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني. فالسقوط بدون مقاومة لغريان كان لامحيد عنه، في قبضة غريتسياني الذي زحف عليها في 17 نوفمبر 1922 بجيشه من يفرن التي احتلها بعد معركتي بلدتي أم الجرسان والقلعة "صفيت" وكما حدث لميليشيات الكرامة ومن التف بهم من قبائل العُربان في باطن الجبل وظاهره. فان القائد الإيطالي لم يفقد بعد شهرين المدينة الاستراتيجية التي أمنت له نفوذه حتى فزان. فلقد تأتى لغريتسياني هذا النصر، لأنه تريّث في جادو لإنجاز عمل سياسي، وصف في معجم معارك الجهاد لمؤلفه خليفة التليسي بإلهام اجتذب به فئات أقنعها بالتسليم، وضمن فئات أخرى أن تقف على الحياد. درس غريسياني الذي ينبغي أن يتعلمه من يريد السيطرة على طرابلس، هو أن يضمن جبل نفوسة، حتى تسقط غريان في اليّد بدون حرب.

حتى انقلاب العسكر عام 1969، كانت غريان الحضرية تتولاها الطبقة التي مثلتها عائلات الأعيان، أبرزها عائلة كعبار الكورغلية التي سلم وجيهها غريان بدون حرب لغريتسياني الذي كافأه بالإعدام لثأره منه حسب ما ادّعي بسبب عصيانه القديم للدولة الإيطالية. وظلت غريان حتى سقوط الاستعمار مركز إدارة لعموم الجبل، وبعد الاستقلال صارت المحافظة التي رفدت حكومة طرابلس الوطنية برجال البوليس والقضاة والموظفين. ولهذا السبب استراب رأس النظام الانقلابي في الغراينة ، فسعى جاهداً في الترفيع الزبوني للقبائل الرعوية التي ارتبطت بغريان الحضرية بنظام الرعي المعروف بـ "المشاركة" وعلاقته المؤطرة له مجتمعياً بتسمية "الصُحبة" بينهم وبين قبيلة الأصابعة المتمركزة في الرابطة حتى صار إسم الرابطي قرين الناطور، وبعدهم تأتي قبائل باطن الجبل من عُربان الجعافرة والسلالمة، والحرارات والقديرات، والبريكات. كما بيّن الكاتب عمر الكدّي في قراءة مبكرة ونابهة: نجاح دكتاتور ليبيا المُسقط بالثورة الشعبية 2011 في استغلال الحساسيات الثقافية التي كانت قائمة في إضعاف غريان، وذلك بتقوية البدو الرحل الذين كانوا يمتهنون حرفة الرعي، ولكن مع الوقت تحولوا إلى أغلبية داخل المدينة، حتى إنهم في منتصف التسعينيات انتزعوا من سكان المدينة الأصليين كل الأمانات، بالإضافة إلى أمانة المؤتمر الشعبي (المجلس البلدي).

من الجانب العسكري والأمني تبلور الولاء الزبوني للقبائل المذكورة بأن دفعت بأبنائها جنوداً في كتيبة عسكرية تضخمت مع الزمن لتهيمن على المشهد الأمني في غريان برمتها، ونعني الكتيبة التي اشتهرت بقمع الثورة في الجبل عام 2011 والمعروفة باسم آمرها "سحبان "المقرحي الذي عزّزها بجنود محترفين من قبيلتي المقارحة والمشاشية.
تلويح رأس التنظيم الانقلابي من البداية 1969 بالشعار العروبي، جعله محل شك ونفور من المكون البربري في جبل نفوسة، إضافة لتعقيد التحالفات التي أملتها النزاعات التاريخية بين المكوّنات البربرية والمعرّبة والعربية. و انفراد قبيلة الزنتان مع أخوتهم الرجبان دون غرمائهم المشاشية والمقارحة وأولاد بوسيف بأن يلعبوا دوراً في مشروعية جهادهم ضد الطليان، بأن ضمّنوا فيه أحلافهم المعرّبين كقبيلة أم الجرسان وفرع أولاد عمران في ككلة ،وبربر تاغمة والشقارنة وتزمرايت. كما أن انتقالهم لمواصلة الجهاد في الجنوب بوأهم مكانة لدي عائلة سيف النصر الحاكمة لفزان.

قد يكون هذا سبباً أذكى حساسية رأس الانقلاب بحكم نشأته في سبها من ضلوع الزنتان المقيمين بها في خدمة عائلة سيف النصر التي تتولاها. وأخيراً إن الزنتان هم من أخسر جبل نفوسة، عدا قبيلة أو اثنين، من حسابات إفشال النظام الدكتاتوري السابق للثورة الشعبية 2011.

طي صفحة النهابة الغنائمية التي لم تكن وصمة للزنتان وحدهم، وإذابة الحساسيات والنزاعات التي ولّدتها أحداث فجر ليبيا 2014 ـ 2015 ضد الزنتان في الجبل واستعادة المشروعية لحضورهم الثوري 2011 في الترتيبات التحالفية الجديدة، من غريان حتى نالوت، واسترابة الزنتان في استعادة الدكتاتور الذي ساهموا في إسقاطه عام 2011، عوامل مهمة أخسرت القوات المهاجمة لطرابلس غريان الاستراتيجية، بل الجبل الغربي برّمته، ووضعت في موقف صعب من جديد القبائل التي دفعت بأبنائها جنوداً، من ضمنها كتيبة سحبان في كتائب النظام الدكتاتوري المُسقط في مضادة الثورة الشعبية 2011. وتؤكد وقائع الأسر والموت أن قائد مُسمى الجيش استعان بشراذمها في هجومه على طرابلس وهي، إضافة إلى قبائل العُربان المذكورة، تضم ضباطاً وجنوداً من قبائل المقارحة، الأصابعة، المشاشية، وعكارة.

قائد مسمى الجيش الليبي مازال يعيش في وهم بساطة الاصطفاف القبلي في الشرق الليبي الذي صاغته الحركة السنوسية في دعوة دينية شعبية خففت من تنافراته الساذجة، وكذلك بوهم نوستالجيا الجيش الليبي الذي تحرّكه الأوامر الفوقية وقد عمل ضابطاً فيه، ولم يصدق نهايته التي رأى بدايتها في هزيمته في تشاد، وهو ليس له دراية، بحكم مكوثه عشرين عاماً لاجئاً في الولايات المتحدّة، بالمياه التي أجراها النظام الدكتاتوري السابق تحت الجسر حسب التعبير" Much water has flowed under the bridge " حيث لم يعد هناك جيش، الذي تشذّر في كتائب لها طبيعة الميليشيا وإن تسمّت جيشاً.