Atwasat

مقاهي جاكرتا

سعاد الوحيدي الأحد 14 يوليو 2019, 12:48 مساء
سعاد الوحيدي

ما فتئت الصورة الأولى التي اكتسحت رأسي لميدان فتح الله (قلب جاكرتا القديمة "سوكا توا")، تقفز لذاكرتي كلما جاء ذكر اندونيسيا (والتي استغرقت مني أكاديمياً، وقتاً غير قصير، لتعدد الأعراق واللغات والثقافات والحروب والغزوات... التي طبعت تاريخ هذا البلد الإسلامي المتربع على عرش المحيطين الهندي/ والهاديء). حيث كان مكان العشاء لليوم الأول للسيمنار المنظم بجامعة المدينة حينها، في مقهى باتافيا الذي يتصدر هذا الوسع الاستثنائي.

وقد فاجأني تزركش الميدان، (وسط المباني الهولندية العتيقة، الشاهدة على وقوع هذا البلد الجميل فريسة للاستعمار الغربي برهة من تاريخها)، بما تصورته عرساً جماعياً كبيرا. أو احتفالية شعبية ذات لون خاص، تفترش قوس قزح على الأرض مباشرة. وقد احتشد المكان بجموع غفيرة متربعة على الأرض، توزعت إلى تقسيمات متداخلة متلاصقة في حميمية مهذبة. وحيث كانوا يتبادلون الحديث ويشربون الشاهي ويتقاسمون الحلوى والكعك... والأكل...! في صخب جميل ممتع. وقد تعذر علي فهم ما كان يدور، وأخذت أسأل مُضيفينا من أهل البلد، في دهشة عن هذا الحدث. غير أنهم واجهوني بابتسامات عريضة مستغربة لسؤالي، وشددوا على أنه ليس ثمة من شيء مميز ذاك اليوم.!!!!

وأذكر أني أخذت أردد في قلبي أمام تلك الإجابة، كيف تكون الأشياء المميزة لديهم إذاً، إن كانت هذه اللوحة الأسطورية التي تتراقص أمام أنظاري أمراً عادياً بالنسبة لهم؟! قبل أن تقطع أفكاري دهشة وجودية مُضافة، حالما دلفنا إلى باتافيا. حيث بدا الأمر وكأننا أجتزنا عتبة زمن مفارق/ ومغاير. توقف عند مشارف القرن السابع عشر، مستفزاً لذاكرة استعمارية اختلطت في جوفها الأطماع التجارية بالعسكرية، واكتساح الهولندين للسبق البرتغالي المنافس في المنطقة (تأكدت سطوة شركة الهند الشرقية الهولندية، التي صنعت التفوق الاستعماري لهولندا في أقصى آسيا لأكثر من قرنين، رغم ثورات الإندونيسيين المتوالية على هذا الاستعمار، وبقيت هكذا حتى تدخل اليابان). فإن ما يحتويه مقهى باتافيا، (المُسمى الهولندي لجاكرتا، والذي قصد القطع مع المعنى العميق لأسم "جاياكارتا"، والذي يعني المزدهرة/ التي لاتقهر)، من صور وشواهد ووثائق لا علاقة له بالزمن الذي يدور خارج بابه. وأن معماره وأثاثه وديكوره وكل ما فيه يؤسس لوقفة تاريخية ذات وزن مهم. (ويعتبر اليوم أرشيف شركات الهند عموماً إرثاً عالمياً للإنسانية. وتشكل المستندات التجارية وتقارير سفرات موظفي هذه الشركات إلى البلاطات الملكية للحكّام الذين تاجروا معهم ... مصدرا مهماً للمعلومات حول قرنين من التاريخ الآسيوي- الأوروبي).

بين دهشة الميدان وصدمة باتافيا، سرعان ما سيتبين لي أن اندونيسيا قد نجحت في خلق نسيج ثقافي بالغ الريادة يربط في تناسق عميق، بين مكونات الذاكرة الوطنية وصيرورة تاريخها في عمومه، حيث تحولت كافة المباني الموروثة عن الاستعمار إلى متاحف وطنية، وفتحت الفضاءات ذات العلاقة بهذا الاستعمار، ساحات شعبية تنتعش في رحابها ذاكرة الأمة وإرثها الخاص. ودمجت وفق هذا الخيار، تفاصيل التراث المتجذر في عمق تاريخ البلد، بخريطة زمنية متدفقة غير قابلة للانقطاع، وذلك في زخرفة رائعة قلما تحققت لمدينة أخرى بهذا الجمال والجلال. أما تظاهرات الميدان فسيتبين لي أنها الحشود القاصدة لمقاهي المساء رائعة البساطة، عذبة التناسق والتلاصق والعفوية، حيث يمثل كل مربع مقهى منفصلا، يجلس إليه رواده على الأرض مباشرة، كما يجلس الملوك والأمراء والوزراء... في هذا البلد.

أتحدث عن هذا وأنا أداعب فكرة ليست غريبة عن ثقافتنا: ماذا لو تحول ميدان الشهداء في طرابلس الجميلة (أو ساحة المحكمة في بنغازي العامرة)، إلى ساحة مسائية لمقاهٍ عربية بسيطة، نتربع في رحابها، كما نفعل في جلسات المرابيع العتيقة. وحيث تسمح لنا مع نهاية كل نهار (في عرس جماعي)، باحتساء شاهي اللوز/ أو الكاكوية. مع شيء من الكعك أو المقروض.....!