Atwasat

حكايات عن النشوة والثورة

سالم العوكلي الثلاثاء 09 يوليو 2019, 02:49 مساء
سالم العوكلي

في كتابه "الوصايا المغدورة" ترجمة: معن عاقل، وفي صدد حديثه عن التماهي مع النشوة التي تعني وفق تصوره وجود المرء عبرها خارج نفسه، وطبقا لأصل الكلمة الإغريقي (Stasis) الذي يعني: فعل خروج الكائن من حالته، يسرد ميلان كونديرا هذه الحكاية الطريفة:

"اتذكر يوما من أيام شبابي: كنت بصحبة صديق في سيارته؛ وأمامنا، كان الناس يجتازون الشارع. تعرفت إلى شخص لم أكن أحبه، فأشرت لصديقي عليه قائلا: "ادهسه!" كانت تلك مجرد مزحة لفظية بالتأكيد، بيد أن صديقي كان في حالة غبطة فائقة فأسرع. ذُعِر الرجل، فتزحلق ومن ثم سقط. أوقف صديقي السيارة في اللحظة الأخيرة. لم يُصب الرجل بأي جرح، إلاأن الناس تجمعوا حولنا وأرادوا (أتفهمهم) شنقنا. مع ذلك، لم يكن لصديقي قلب قاتل، فقد دفعته كلماتي إلى نشوة خاطفة (لكنها واحدة من النشوات الفائقة الغرابة: نشوة المزحة).".

مثل هذا الانصياع لنشوة خاطفة ليس غريبا علينا، وكثيرا ما نمر به أو بالأحرى يمر بنا، حين تنتابنا فكرة مجنونة وسريعة عن قتل شخص خطف منا الصديقة، أو حين نرى واجهة زجاجية لامعة فيراودنا خاطر بكسرها بحجر، هذه النشوات السريعة ميزتها لا تخرج لحيز التنفيذ وتظل حبيسة الغبطة بتلك اللحظة التي تحررنا فيها من انضباطنا والتزاماتنا الأخلاقية.

يقول إميل ميشال سيوران في كتابه موجز التفكيك "لا يوجد إنسان لم يتمنَّ – لا شعوريا على الأقل – موت إنسان آخر. كل واحد يجر وراءه مقبرة أصدقاء وأعداء؛ وليس من المهم كثيرا أن تكون تلك المقبرة قد أحيلت إلى مهاوي القلب أو أسقطت على سطح الرغبات.". غير أن هذه التمنيات، لحسن الحظ، تشكع كبرق في مناطق شريرة من تكويننا دون أن تترك أثرا في الإرادة أو حتى الذاكرة، لأنها في الواقع كما يشير سيوران تسقط على سطح الرغبات وتنزلق إلى النسيان.

أتذكر الآن تلك النشوة التي أخذتنا طيلة شهور ثورة فبراير، والتي عشناها ساعة بساعة، لكنها في الزمن التاريخي تعتبر نشوة خاطفة تمخض عنها إسقاط أحد أعتى الأنظمة قمعا، تخللها الكثير من الخوف لكنها ظلت نشوة عصية على التعقل أو التشاؤم، بل وصلت ذروتها لأن ننتشي بتلك الحرب التي تمخضت عن حالة التمرد هذه، وتحولت مواقع الاتصال لعرض مشاهد من جبهات الحروب تفرض علينا حالة النشوة أن نراها ملهمة وأحيانا طريفة لدرجة الضحك، يبدو أن الثورة كي تكتمل تحتاج من الجميع الحفاظ على هذه النشوة التي تجعل من مشاهد العنف لوحات جمالية تتدفق عبر النت بين ملايين العيون. وفي

الميادين كان من السهل رؤية حشود خارج نفسها أو خارجة عن حالتها المعهودة.  
إحدى تلك الصور التي كانت تنشر الغبطة وتطغى على مواقع التواصل، شاب ينام على ظهره رافعا رجليه إلى الأعلى ساندا فوقهما سلاح الآر بي جي، إنه لا يصوب لهدف محدد ولا يخلص لقوانين وشروط استخدام هذا السلاح الفتاك، لكنه كان تحت غمرة النشوة المصابون بها جميعا مشهدا جماليا وفوق ذلك ينتمي بجدارة إلى نشوة المزحة، تبعث فينا الصورة شيئا من الضحك خصوصا وأن رفع الرجلين إلى أعلى علامة لحالات الضحك المتطرفة والسعادة حين تفرط في سعادتها.

يتذكر كونديرا معرض بيكاسو في براغ أواسط الستينيات، وانخطافه أمام إحدى اللوحات: "امرأة ورجل يأكلان البطيخ، المرأة جالسة، والرجل متمدد على الأرض مباشرة، وقد رفع ساقيه نحو السماء في حركة فرح لا توصف. وكل هذا يصور لامبالاة مسرورة جعلتني أفكر أن الرسام اضطُرَّ وهو يرسم اللوحة إلى أن يشعر بفرح الرجل ذاته الذي يرفع ساقيه". 

سعادة الفكاهة هي ما تتسرب إلى قلب بيكاسو الذي لا حدود لخياله، ولكن أن ينتصب فوق القدمين المرفوعتين نحو السماء سلاح آر بي جي، فهذا لا يخطر على خيال بيكاسو ولا سرياليته الجامحة، إنها لوحة لا يمكن أن تبتكرها إلا ثورة مجنونة تغذيها حالة من النشوة الغامرة.

استمرت نشوة فبراير حتى انتخابات السابع من يوليو 2012 وبلغت ذروتها في المشهد الفائق النشوة: تسليم الكيب السلطة لعلي زيدان وانطلاقه في سيارته إلى حيث لا أحد يعرف، وهذا المشهد المنسوخ عن مشاهد بوابة البيت البيض التي تتكرر كل أربع أو ثمان سنوات كان، أيضاً، يقع تحت نشوة خاطفة الجميع مستغرق فيها، غير أن ثمة أشخاصا آخرين خرجوا مبكرا من تحت سلطة النشوة، أو ربما لما يعيشوها في الأساس، وكانوا يستغلون غياب الجماهير في ثمالة النشوة، والتقاطهم لصور السيلفي مع أصابعهم المغموسة في الحبر البنفسجي، ويرسمون بصحو تام خطط الاستيلاء على هذا الحدث وتوجيهه نحو رغباتهم، وحين استيقظ الناس من نشوتهم كان كل شيء قد خرج عن السيطرة. 

بهذا المعنى يمكن أن نربط الثوري أو الثوار عموما بحالة النشوة هذه، بينما مترصدو الثورة كانوا منذ البداية في حالة مناعة ضد هذا الخدر الثوري، وكانوا يجهزون مشاريعهم للانقضاض على التركة الكبيرة مستغلين سهر الناس وثمالتهم في بار الثورة الضاج. 

رابع أيام حراك فبراير كنت خارجا من بيتي صوب مقر بيت درنة الثقافي، وفي الشارع صادفتني سيارة مسرعة تتجاوز سيارة أخرى فاصطدمت بمرآتي وكسرتها، ولم أجد حتى وقتا كي احتج أو أشتم، وقفت على محل سجائر وحين عدت للسيارة وجدت شابا واقفا بجانبها، سلم علي مبديا بخجل غير مألوف اعتذاره عن اصطدامه بسيارتي وأبدى استعداده لدفع ثمن المرآة المهشمة، فشكرته وقلت له: تكفيني عودتك واعتذارك، فقال لي : لولا الثورة لما فكرت في العودة إليك. وبهذه النشوة بالحدث الاستثنائي كان يعترف ببساطة أنه الآن خارج حالته المفترضة، وأنه عاد تحت وطأة هذا الانخطاف الذي هو جزء من نشوة شاسعة تعيشها ميادين المنطقة، وينغمس فيها حتى المراسلون الصحفيون الذين يتخلون عن مهنيتهم ويغيبون في ثمالة اللحظة.

قي ذلك اليوم كنت أجهز لطباعة ألفي نسخة من ميثاق الحرابي التصالحي ليوزع في شوارع درنة، غير أن الأمر أاستقبِل بتذمر وفي بعض الأحيان تهكم، وواضح أن السبب في كونه يعكر عليهم صفو النشوة أو كما يقال "يطيُر السكرة"، أنا نفسي لم أكن خارج هذه الحالة خصوصا بعد موقف الشاب الذي صدم مرآتي غير أن مناكيز التاريخ وبعض المعرفة تجعل من حالتي شبيهة بنشوة من يسير على جسر خشبي نحيل بين ضفتين.

استيقظ الليبيون من تلك النشوة التي كانت تُعرض بسمعها عن كل ما يخدش خدرها الساحر، ولنجد أنفسنا بعد وقت في حروب أخرى لا تمت لأي نوع من أنواع النشوة بصلة، وفقدت صور البطولة سحرها الذي كان يجتاح مواقع التواصل وذاكرة الموبيلات، بينما المحصنون ضدها هم من تحكموا في المشهد أخيرا، وهم من استطاعوا أن يحولوا هذه النشوة إلى ألم يشبه ذلك الصداع الصباحي الذي يعقب ليلة احتفال معربدة. يعود الجميع إلى حالتهم مسلوخين عن تلك النشوة الجماعية المعدية، ومنكفئين إلى عديد النشوات الفردية اليومية، أو كما يقترح كونديرا: "اعتاد الناس أن يربطوا مفهوم النشوة باللحظات الصوفية العظيمة. لكن هناك النشوة اليومية التافهة، المبتذلة: نشوة الغضب، نشوة السرعة أثناء القيادة، نشوة الصمم بسبب الضجة، النشوة في ملاعب كرة القدم. أن يحيا المرء، يعني جهدا شاقا مستمرا لئلا ينسى نفسه بنفسه، وحتى يظل دوما حاضرا في ذاته بشكل راسخ، وفي فعل خروجه من حالته . حسبه أن يخرج لبرهة وجيزة من ذاته حتى يلامس ميدان الموت.".

وأضيف لهذه النشوات التافهة اليومية، تلك النشوة التي رأيتها تطفح من وجوه أشخاص تجمعوا ليقيموا مطبا ضخما على الطريق العام.