Atwasat

التفاوضية وتدجين العنف

نورالدين خليفة النمر الأحد 07 يوليو 2019, 01:24 مساء
نورالدين خليفة النمر

يأمل المراقبون المحليون، من ذوي الاختصاص، في الانقسامية الليبية، وهم قلّة بعدد أصابع اليّد، أن تكون هزيمة غريان للأطراف القبائلية والجهوية في الغرب التي اتخدت قيادة مسمي الجيش الوطني في الشرق ذريعة للهجوم على العاصمة طرابلس، فرصة جديدة للجلوس على طاولة التفاوض. السؤال تفاوض من مع من؟ وبأية نيّة ولأيي هدف والمهم على أية قاعدة. فالبراديغما التفاوضية في ليبيا 1949 ـ 1951 التي يُلّوح بها غير موجود حتى واحد من عناصرها والأهم أن القاعدة الأقاليمية التي افترضت وقتها للتفاوض هي اليوم غير موجودة حتى كافتراض متوّهم.

كل الأطراف النزاعية الليبية المتناثرة والمتشابكة، المنفكّة والملتئمة لتتفكك من جديد، تلك التي تخوض من 14 أبريل 2019 ربما آخر فصل من الحرب الأهلية التي بدأتها أغسطس 2014. ليس أمامها نموذج تفاوضي ليبي ناضج تتخده مثلاً لها تقتديه. ولأن لا أحد يتكلم عن المفاوضات، التي اصطنعت اتفاق الصخيرات الذي شرعن المؤسساتية التي أسست أساساً للأزمة لتحوّلها إلى حرب: البرلمانين الفاسخين والنافلين، ومجلساً رئاسيا هشّاً قابلاً للتفكك والانهيار، تحت ضربات الميليشات الإسلاموية والحرابية التي تحميه، والميليشيات التى تدعي "الكرامة" وشراذمها الزبونية من الكتائب القبائلية والجهوية في الغرب الليبي. الحال الذي يعيد المسألة دائماً إلى المرّبع الأوّل. حيث يهيمن العنف الذي لم تتفكك موجباته المجتمعية أصيلها ومصطنعها. التي تُذكي النزاع من خريف 2014 إلى صيف 2019 اللاهب.

يقدّم "روبيرت ماكافي بروان"Robert McAfee Brown تعريفا للعنف بوصفه انتهاكا للشخصية، بالتعدّي ماديا على الآخر، ومعنويا بإنكاره، أو تجاهله، ويميّز العنف الشخصي الخفي الذي يؤذي الآخر معنوياً، عن العنف المؤسساتي المبطّن، حيث تنتهك البنى الاجتماعية والسياسية هوية الأشخاص. ومثل الثورات التي تحاول قمعها، تهاجم المؤسسة المكافحة للرفض والتمرّد عن قصد العلاقات الاجتماعية في مكان ما، وتحاول إعادة صياغتها. لكنّها في أثناء العملية، تساعد في إطلاق عمليات ذاتية التغذية من التفكّك الاجتماعي العنفي.

وستتبنى المؤسسيّة الناقصة التمثيلية او منعدمتها، البرلمانات والحكومات والمجالس، ذات القابلية المحدودة أصلا للبقاء هذه الظروف من أجل الصراع الداخلي والتطرّف والانتقال إلى سلطوية متزايدة وعقائدية أصولية متشذرّة تتوزّع متوّرمة في الجسد العليل. هذا المآل العنفي جعل المفكرة حنا آرندت وتبعا لمقاربتها الظاهراتية “الفينومنولوجية”، ترى: أن العنف يعبر في كثير من الأحيان عن مشاعر لا ترتبط بالضرورة بالسياسة: كالخوف من الموت والفناء، والبحث عن الخلود عن طريق استمرارية الجماعة. بل تشدّد على "أن العنف يتعارض جوهرياً مع السياسة، بل يقصيها ويغيبها تماماً. إن العنف يرتبط بأفعال في عمقها غير سياسية، وتصدر عن كل أطرافه الفرد والجماعة والسلطة، والذين يثورون علىها في مروحة من الارتدادات منها: التحايل، التمرد والنزوع للفوضى، والضبط أو التطويع الاجتماعي، والتخدير الإيديولوجي. كما أن العنف يجد تبريره أحياناً، فيما يستحيل عليه، وفي المطلق، أن يكون شرعياً؛ ففي المجتمعات التي يحكمها القانون تطغى السلطة، إلا أن الديكتاتوريات، والاحتجاجات والتمرّادت والثورات عليها، وحالات الغزو الخارجي تجعل العنف يطغى، في صورة عارية وكوسيلة سيطرة لبعض الناس على بعض".

للخروج من النفق، تترك المجتمعات الموبؤة بالعنف مؤقتاأسلحته، وتلجأ إلى التفاوض، ولعدم وجود نموذج فاعل له في الراهن الانقسامي، يتم استدعاء نموذج تفاوضي من تاريخ الاستقلال الليبي الحديث. باقتراح العودة إلى الموديل التفاوضي الذي تم في ليبيا مابعد الحرب العالمية الثانية 1949 ـ 1951 وهو نموذج للتفاوض الليبي عاشه الجيل الذي عاصره بعواطفه الشابة، وقلّ بل شبه انعدم من تعمق فيه بحثاً ودرساً آكاديمياً ناضجاً. وأعنى التفاوض على المصير الليبي الذي أدارته الأمم المتحدة المؤسسة الأممية السلمية الشابة عام 1948 المعززة بأمريكا ومباديء رئيسها ولسن في الحقوقية الإنسانية في السياق الدولي، والطالعة للتو من شيخوخة الحرب ورهقها عبر مندوبها الرصين السيد أدريان بيلت، الذي مرّر مهمته على الصراط بين مصالح الدولتين المنتدبتين بريطانيا وفرنسا، وأمريكا التي رجحت انتصارهما في شمال أفريقيا، وإيطاليا التي خسرت مستعمرتها السابقة، والتي تريد الحفاظ على مصالح جاليتها فيها. والمصلحة المحلية، حيث لم تكن توجد مصلحة إقليمية فالبلاد العربية والأفريقية مازالت لم يتبلور استقلالها عن الاستعمار والانتداب.

نجح التفاوض في أن يتخذ طبيعة سياسية ساهمت إلى حدٍ ما في أدراج النخبة الوطنية الليبية في مضمار الاهتمام الدولي. ومكّن النخبة الإدارية الواعية فيها من تجاوز الوهميات، والمخيّلات الشعورية التي كانت تسود المنطقة العربية ـ الإسلامية. لقد وجد كل طرف في التفاوض تقريباُ بغيته الطرف المنتصر في الحرب العالمية والمنهزم فيها، بل حتى الليبيون الذين وقعت عليهم الحرب فكانت أرضهم ساحتها. فكل طرف نظر إلى مصالحه، بعين الاعتبار، ولم يكن هناك مايمنع الجميع من الجلوس على طاولة المفاوضات، التي افترضت لها بارديغما لكي تعمل: شكل الأقاليم الثلاثة المتساوية الحقوق برقة، طرابلس، فزان. أولوية برقة في التفاوض، هو إحقاق لدور بريطانيا في حسم معارك الحرب العالمية في العلمين وطبرق وبنغازي وتحرير برقة من إيطاليا بمشروعية الأمير إدريس السنوسي وإمارته الضمنية على الإقليم الشرقي، وإخراج الإيطاليين وإعلان سقوطهم من طرابلس عاصمتهم الكولونيالية وإخراج الفرنسييين لهم من فزان في الجنوب. أمريكا ضغطت أن تكون لها حصة مهمة في طرابلس التي ساهمت بإنزال جوي مع بريطانيا في تحريرها، بينما تُرك إقليم فزان الذي حرّرته فرنسا لعدم أهميته البشرية والاقتصادية منطقة مراقبة فرنسية لتأمين مستعمرتها الجزائر ومستعمرتيها الأفريقيين المتاخمتين لليبيا تشاد والنيجر.

بريطانيا إزاء المطالبة الأمريكية اشتغلت في فترة انتدابها في طرابلس على بلورة حالة سياسية حزبية طرابلسية بكل تنوعاتها وخطوط ولاءاتها الجامعة العربية، المؤسسة الشكلية التي افتعلها الإنجليز لترمز للنزعة الاستقلالية العربية والإسلامية، وإيطاليا التي مازالت لها روابط مع الطبقة الطرابلسية المحافظة، وبريطانيا التي أسست لشريحة إدارية تكون موازية لإمارة إدريس، ثم اختصارهذه الأحزاب في حزب شعبي مهيمن (المؤتمر الوطني الطرابلسي)، الذي في النهاية يسلم المفتاح للأمير إدريس، ويخرج فتتسلم حكومة المنتصر البيروقراطية الأمور لتنجز عبر المفاوضات مع الإنجليز والأمريكان الاتفاقيتين العسكريتين بإنشاء القاعدتين البريطانية في طبرق والأمريكية ويلس في طرابلس لدعم ميزانية الدولة الليبية المستقلة التي صًنفت قبل اكتشاف البترول وتصديره في الستينات كخامس دولة فقيرة في العالم. والتي لازالت حتى اليوم رغم ثرواتها الطبيعية، التي تكفي الجميع بلدا مهدور الوحدة والخيرات. والمشكلة كما ذكر المبعوث الأممي سلامة ثمة مكان للجميع، لكن المعضلة هي في إقناع الليبيين بذلك لابالمفاوضات ولابغيرها.