Atwasat

ملازم في فولكس زرقاء: الصورة والزمن

سالم العوكلي الثلاثاء 02 يوليو 2019, 12:35 مساء
سالم العوكلي

ما دار من حوار بيني وبين الزميل عمر الككلي حول المرحلة الملكية، مطلوب جدا لتدبر تراثنا السياسي ومراحل تشكل الدولة بكل إنجازاتها والتباساتها، وأشكر من قلبي وعقلي تغيير فبراير العظيم الذي أتاح لنا النقاش دون خوف أو محاذير حول هذه الحقبة، وهذا المناخ المواتي ذكرني بالخوف الذي صاحب نشر مقالتي "الفولكس الزرقاء" بتاريخ 27 مارس 2009 بموقع ليبيا اليوم، ثم إعادة نشرها في صحيفة أويا التي كان يرأس تحريرها الزميل الصحفي محمود البوسيفي، والتي من خلالها كنت أطرح وجهة نظري الإيجابية تجاه تلك الحقبة مع صعوبة وخطورة هذا الطرح وقتها، ولكن بخبث استغللت صورة القذافي نفسها المنتشرة في شوارع ليبيا لكي أطرق هذا الأمر المحفوف بالمحاذير والمخاطر، واستأذن المحرر لإعادة نشر هذه المقالة، ربما لأبدي من خلالها أن ذكري لأهمية هذه الفترة غير مرتبط بما يحدث في ليبيا الآن من استقطابات، ولكنه محاولة لتجذير تجربة هذا الكيان في طموحه نحو تأسيس الدولة الحديثة، والمهم أني أعيد نشرها هذه المرة دون أي إحساس بالخوف.

الفولكس الزرقاء ــ نشر في موقع ليبيا اليوم 27 مارس 2009
كنت في سيارتي أنتظر أمام مجمع العيادات بدرنة وفي مواجهتي صورة الكترونية ضخمة تتغير مشاهدها بالتبادل وعندما ظهرت إحدى الصور سألني ابني الصغير: هل هذه دعاية للفولكس؟ ومن باب اختبار قدرته على القراءة الصحيحة اصطحبته للاقتراب من الصورة وطلبت منه قراءة العبارة المكتوب تحتها (الملازم معمر القذافي يقوم بتوزيع المناشير بسيارته في مدينة طرابلس) وللمرة الأولى أجد نفسي أتأمل اللوحة المرسومة عن كثب. فولكس فاجن زرقاء تسير ببطء في أحد شوارع طرابلس القديمة يقودها الملازم معمر القذافي بملابسه العسكرية وعلى وجهه ابتسامة رضا، يُخرج من النافذة يده اليسرى ملقياً في وضح النهار بالمناشير السياسية المعارضة للنظام السياسي في ذلك الوقت، الشارع نظيف وعلى جانبيه مقاهٍ ودكاكين يجلس أمامها مواطنون تظهر على وجوههم الطمأنينة وبعضهم يلتقط المناشير دون خوف.

واكتشفت أن الصورة فعلاً تمثل دعاية، ليست دعاية لسيارة الفولكس فاجن، ولكن لتلك المرحلة الزمنية التي استحضرتها ذاكرة اللوحة والمكان وما يحيط بها من أجواء اجتماعية وسياسية.

ما قصدته من هذه المقدمة هو النظر بموضوعية لتاريخنا البعيد والقريب، كبديل للتناول العاطفي المبالغ فيه سواء كان مع أو ضد، وما يعنيني هنا المرحلة الممتدة من الاستقلال إلى قيام الثورة والتي ظُلمت سواء عبر تمجيدها المبالغ فيه من قبل البعض أو عبر إلغائها وكيل الهجاء لها من البعض الآخر، وهي فترة مهمة من تاريخ شعبنا، وكأي فترة في تاريخ أي أمة لا تخلو من الإنجازات المهمة ولا من الالتباسات، خصوصاً وهي تمثل نقلة نوعية لنضال شعبنا طيلة القرن، كما أنها تمثل قوانين اللعب السياسي الذي يسم تاريخ الشعوب في مثل هذه الفترات التي تؤسس فيها كيانها. كثيراً ما أحس بالأسى حين أُدرّس أولادي مادة التاريخ ، التي تطرح في منهجها قتامة هذه المرحلة بانفعال واضح، يبين أن البلاد كانت خلوا من الوطنيين أو الكفاح السياسي فيها. لا يمكن أن ننكر جهود من ناضلوا في المهجر وحاولوا بكل السبل إيصال مأساة شعبنا إلى ضمير العالم، ولا من سافروا إلى الأمم المتحدة وكافحوا سياسياً من أجل الحصول على استقلال ليبيا والاعتراف بها كدولة مستقلة من المجتمع الدولي، ولا من ناضلوا في الداخل عبر المؤسسات الأهلية وقدموا الكثير من أجل وحدة هذا الوطن الذي كان يراد تقسيمه.

حقاً لقد كانت توجد قواعد في تلك الفترة ونفوذ أجنبي يشوب الاستقلال، ولكن هل كان في الإمكان أبدع من ذلك في دولة مازالت تحبو وهي خارجة من ويلات الحروب والمجاعة والأمية والأوبئة؟ وألم يكن لكل طريق تحرر خطا أولى؟ وألم يكن الواعز الوطني على أشده وإن كان يتحرك ضمن تكتيكات سياسية لا مناص من خوض غمارها؟ وألم يهيء كل هذا الجهد المناخ لقيام الثورة نفسها؟ وألا يدعونا للتصالح كوننا نقيم علاقات صداقة قوية مع دولة قطر التي توجد فيها أكبر قواعد أمريكية خارج الولايات المتحدة؟ إضافة لأجواء التصالح الحميمية الآن مع أحفاد الفاشيين الذين أبادوا نصف شعبنا، وهل يمكن المصالحة مع الآخر دون التفكير في التصالح مع الذات والذاكرة وتاريخنا الوطني؟ أسئلة لابد منها تفرض علينا نظرة منصفة لتلك الفترة الحرجة في تاريخنا ومن ثم وضعها في إطار النقاش الموضوعي، ألا يعتبر وصفنا لرجال تلك المرحلة بالخونة والعملاء تشكيكاً في وطنية أبناء هذا الشعب وانتمائهم؟ ألا تستحق بعض الأخطاء ـ التي شابت تلك المرحلة ـ منا وقفة تعامل عقلاني معها، خصوصاً وأن لا ثمة حراك سياسي واجتماعي دون أخطاء في كل مكان وزمان.

إنني لم أعايش تلك المرحلة كثيراً حيث كان عمري عشر سنوات عندما قامت الثورة، لكني أذكر وبعين الطفل العديد من الوقائع التي تشي بأن ما يقال عن تلك المرحلة ليس صحيحاً، وإنما جاء في إطار تعبئة ثورية متحمسة تريد للتاريخ أن يبدأ من الصفر.

أذكر أن أبي تحصل على عمل في المواصلات في بداية الستينات، كعامل إشراف ونظافة على كيلو متر من الطريق العام الذي يمر بقرية القيقب، بمرتبقدره ستة عشر جنيهاً، وكانت علاوة الزوجة "أربعة دنانير" تمثل ربع المرتب، وعلاوة الطفل "دينارين" تمثل ثُمن المرتب، في ذلك الوقت الذي كان فيه الديناران كافيين لشراء أضحية العيد، ومازالت هذه العلاوة كما هي، مع العلم أنها لا تكفي الآن لشراء علبة حليب أطفال، كما كنا في الغابة نخاف من إشعال النار لأن حرس الغابات سيقف علينا بحصانه بمجرد أن يرى الدخان، إضافة إلى أني قرأت عامي الدراسي الأول بمدرسة لالي التي تم إنشاؤها في بداية الستينات، حيث كنا سبعة تلاميذ فقط في مدرسة مازالت هي الوحيدة حتى الآن وتتسع لأكثر من أربعمائة طالب، وكانت مديرة التعليم في ذلك الوقت المربية فتحية عاشور تزورنا مراراً لتطمئن على سير العملية التعليمية، كما كانت تزورنا في قرية القيقب المكتبات المتنقلة والسينما الجوالة دورياً وبشكل ينبئ باهتمام أفقي بالتربية والثقافة، مع العلم أن أولادي الآن يعيشون في مدينة ليس بها مكتبات ولم يشاهدوا حتى الآن عرضاً سينمائياً؟ .. وغير ذلك من الوقائع التي تؤكد لي الآن حقيقة أنا كنا في دولة قانون وإدارة وهو المنحى الأساسي لتطور أي مجتمع، إضافة إلى ما سمعته فيما بعد عن هذه المرحلة فيما يخص الاهتمام الكبير بالتعليم الجامعي وجلب أهم الأساتذة من الجامعات العربية، وعن قرار المحكمة العليا الذي أوقف مرسوما ملكيا لعدم قانونيته، والحركة النقابية النشطة وغيرها من إرهاصات أساسيات تكوين الدولة الحديثة، وبالتأكيد لم تكن هذه المرحلة خالية من المشاكل والالتباسات، مثل منع نشاط التيارات السياسية المختلفة والرشوة والوساطة التي كثيراً ما يدور الحديث حولها، ولكن هل كانت المراحل اللاحقة خلواً من هذه المشاكل؛ والتي يتم الحديث الآن عنها بشفافية، ومن قبل أعلى المستويات.

وفي المجمل هذا كله تاريخنا الذي بقدر ما نفتخر به لا نبعده عن دائرة التحليل والنقد، لذلك ملزم علينا أخلاقياً أن نعيد الاعتبار لفترة ما بعد الاستقلال وأن نستمد من إنجازاتها وأخطائها حيوية التقدم وآفاق التخطيط المستقبلي. وفي النهاية أطرح هذا الموضوع للحوار المسؤول، خصوصاً ما يخص تلك المرحلة التي عشت جزءاً منها في طفولتي في شظف من العيش، لكن ما أذكره جيداً هي تلك الطمأنينة البادية على وجوه المحيط والظاهرة بشكل جلي على لوحة الفولكس الزرقاء التي ألهمتني هذه الرؤية: "لا يمكن أن نتصالح مع المستقبل إلا إذا تصالحنا مع الماضي" ولتبقى ليبيا بيتنا الواسع الذي يتسع لنا جميعاً.. وحين يكون البيت متيناً تصبح العواصف ممتعة.