Atwasat

العدل والصحراء

سالم الكبتي الخميس 27 يونيو 2019, 08:30 مساء
سالم الكبتي

(فزان مارديت بالك منها... بلا موت ياسيدى تبي تدفنها)

           الشاعر قنانه مخاطبا يوسف باشا القره مانلى

الصحراء. والتلال والكثبان. والقلعة تبدو من بعيد. وجباه الرجال السمر. سبها والدروب كلها تصب فيها. منها وإليها. غدواً ورواحاً. المنشية والقرضة والجديد والمهدية وسكره وحجاره. والإدارة الفرنسية تربك المشهد. من أعتى الإدارات الاستعمارية. أحذية جنودها الثقيلة تنتشر فى الجزائر والمغرب وتشاد والنيجر ومالى والسنغال والكامرون. حزام من النار يحيط بفزان. كانت تود أن تلحقها بعيدا عن الوطن بتلك المستعمرات. والأقرب إلى سلطاتها في الجزائر بالتحديد.

كان ثمة صحوة هناك وسط الصحراء والتلال فى تلك الأعوام القاحلة. لم يكن الأمر سهلا فى التعامل مع الإدارة. كثير من الصبر والمعاناة والتنسيق فى الجهود مع أطراف الوطن رغم البعد وقلة الزاد ووحشة الطريق.

صحوة الرجال في تلك الظروف فرضت نفسها وأصبح لها شأن في مداولة الأمور رغم التهميش ومحاولات الإبعاد وكل المؤامرات والمحاولات التي تؤدي إلى تفتيت الوطن شماله عن جنوبه. شرقه عن غربه. الصحراء تلم أطراف الوطن دفعة واحدة.
والصحوة لكي تستقيم الأوضاع .. وطنية وليست غريبة عن الأرض أو من الخارج.
 
في المشهد في عمق الصحراء والتلال العطشى والأحزان يتبدى ويلوح الرجال فى لوحة واحدة. أحمد سيف النصر وعمر سيف النصر وطاهر القذافي بريدح ومحمد عثمان الصيد وعبدالرحمن البركولي والمهدى بن أحمد وحسن ظافر بركان وأحمد السنوسي صوفو وحموده الطاهر وأبوبكر بن حمد ومحمد على شلقم والطاهر العالم والطاهر الجراري ونصر بن سالم.. وغيرهم من الرجال. إرادة رغم تباين الآراء والاجتهادات. لكن الهدف ظل واحدا وسليما متفقا عليه.

قبيل الاستقلال الذى بدأ من الصفر ثم بعده  تشكلت الحكومة لإدارة الأعمال والشؤون وخدمة الناس بالقدر المتاح. بدأت في وضع حجر الأساس لبناء فزان بالنوايا الحسنة وعزوم الرجال وسط الصحراء والتلال العطشى والرمال المتحركة أغلب الوقت. كانت فزان تحت العين دائما من الآخرين فى كل الحقب والعصور لكنها ظلت فى روح الوطن وقلبه. حواضر فزان. تراثها. تاريخها.

جرمه وحضارتها وأهراماتها فى متخندوش والعربات التى تجرها الخيول والنقوش فى تاسيلى وتيبستى. دولة بني الخطاب فى زويله. دولة اولاد امحمد. المكني والناصر واشرومه وابنته خود. مرزق والترك. قبائل الطوارق والتبو. تاريخ يمتد ولا ينقطع. يربط الساحل والصحراء. الرمال والشواطيء. القوافل والتجارة. الفن وحنين الإنسان.

ثم ساند الشباب الشيوخ. التحديث والحداثة والانطلاق. الأحلام والتطلعات بعدد حبات الرمال. سيف النصر عبدالجليل. وسالم سيف النصر وغيث عبدالمجيد ومحمد نجومه والعربى عبدالقادر والمهدى بوزو  والشريف أحمد الهوني وغيث سالم ومحمد المهدي القاضي وموسى مفتاح وغيرهم. المجلس التشريعي والتنفيذي ومجلس الإعمار. والرمال تتحرك والأضواء في الليل تخترق الأبعاد.

شيوخ يمتلؤون حكمة وصبرا. وشباب يتحرك ويستند إلى خبرة الشيوخ. ومن شرق البلاد من برقه يسهم في التطوير آخرون: عبدالرحمن بادي وعمر عبدالرحيم والطايع عبدالحق وفتحي الصلابي وأحمد فلاق. ومن طرابلس.. محمد عمر الطشاني وفاضل المسعودي وغيرهم تلتقي الإرادة الوطنية لتحقق المستحيل هناك في فزان البعيدة. وتظل جريدة فزان تحاول نشر الوعي والتنوير. كتابات يوسف القويري وعلي فهمي خشيم وعبدالله القويري ومحمد مصطفى رمضان ورشاد الهوني وحميدة القزله. حروف تنقش كلماتها من أنحاء الوطن وتستقر في فزان.

وعبر الرمال وصهد الشمس وأسمار الليل تغزل الحكايات خيوطها الملونة. وقصصها المختلفة. ومن الشيوخ تنطلق حكمة الحكيم في الصحراء الممتدة عبر الأفق بلا انقطاع.

حمودة بن طاهر نسيج وحده وسط أولئك الشيوخ والشباب. يتولى العدل والداخلية ويدير بالنيابة أحيانا المجلس التنفيذى بالولاية. كان ناظرا للعدل تلك الأيام. من مكتبه البسيط سمع أحد المواطنين قادما إلى مقر النظارة المتواضع في سبها يشكو مظلمة ويقول: وين العدل؟. التقاه الناظر حموده بن طاهر. أجابه: ياولدي انكان تبغي ناظر العدل هاهو قدامك وانكان ادور على العدل راهو من وقت عمر بن الخطاب.. سلامتك ماهناك!!

ويتردد الجواب في رمال الصحراء. بساطة المواطن وعفويته وشكواه من دون خوف وإجابة المسؤول القوية. حمودة بن طاهر. التلال والرمال. العدل والصحراء يتفقان في الإجابة!