Atwasat

مزحة... وتفاوض مبكر..!!

عطية صالح الأوجلي الخميس 27 يونيو 2019, 08:18 مساء
عطية صالح الأوجلي

ما الذي سيخطر ببالك لو سمعت كلمة «مفاوضات».. أو «التفاوض»... لعل ذهنك سيرحل بك نحو عالم السياسة فتتذكر مفاوضات كامب ديفيد وأوسلو وطابا والصخيرات... أو تتذكر المفاوضات الشاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوربي وبعضا من المفاوضات التجارية الشهيرة.. لكنك في الغالب لن تربط التفاوض بطلاب مدرسة إعدادية حتى تقرأ القصة التالية والتي ذكرها الإعلامي الأمريكي الشهير لاري كنج في مقال له والتي كان أحد أبطالها.

نشأ لاري في منطقة بروكلين بمدينة نيويورك خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وهو حي فقير لا يقدم لأطفاله سوى الوقوف بناصية الشارع ومراقبة السيارات أثناء مرورها والتسكع ومتابعة إحصائيات مباريات البيسبول و... بالطبع الذهاب إلى المدرسة. يتحدث صديقه هيربي كوهين عن تلك المرحلة فيقول:

«لقد جئنا من حي بينسونهورست في بروكلين، وهو حي إيطالي ويهودي. كنا فقراء ولم يكن لدينا نقود. لم يكن بالحي سوى متجر للحلوى، وبقالة بناصية الشارع. وكنا نحصل على تعليمنا من قراءة الصحف. أما في المدرسة فقد كنا نصنف كأبناء الجماعات العرقية التي تغلب عليها العاطفة والتي تتحدث بأيديها، لذلك كنا في حالة خصام مع محيطنا المدرسي، ورغم ذلك كنا نرى فيها مكان للرفقة والمتعة، وكسر الملل الذي يشوب حياتنا. لذا صنعنا بعض المغامرات الخاصة بنا. أذكر المرة التي كان فيها صديقنا ميل مريضا بالسل وذهب مع أسرته إلى ولاية أريزونا للتعافي من المرض، واعتقدنا أنه سيكون من الممتع إخبار الجميع في المدرسة أن ميل قد مات.

قام هيربي ولاري وصديق آخر بإخبار الجميع بالنبأ الفاجع كما قاموا بجمع المال منهم لشراء مجموعة من الزهور الجنائزية، لكنهم احتفظوا بالمال (15 دولارات!) لينفقوه في كشك ناثان للسندويتشات الساخنة. تساءل لاري عما يمكن أن يحدث إذا ما تماثل ميل للشفاء، لكن هيربي قال عندما يحدث ذلك سيكون الجميع قد نسي أنه من المفترض أن يكون ميل ميتا..!!!

مضت الأمور كما خطط لها الثلاثة.. وكان يمكن أن لا يتعكر صفوها لولا أمر لم يكن بالحسبان..!! كانت صحيفة نيويورك تايمز تنشر آنذاك حلقات حول النشاطات المدرسية. اتصل بها مدير المدرسة وأعلمها بما فعله الطلاب تخليدا لوفاة زميلهم وأنه للتعبير عن إعجابه بفعلهم هذا قرر إقامة حفل تقدم فيه جائزة للطالب المتميز تكريما للراحل ميل. وبعد أسابيع قليلة أقيم حفل لتأبين الراحل وتوزيع الجائزة، اجتمعت المدرسة بكاملها في القاعة، بينما جلس مراسل صحيفة نيويورك تايمز والمصور في الصف الأمامي، وفجأة.. دبت حالة من الفوضى والذعر بين الطلاب حيث دخل إلى القاعة ميل الذي كان من المفروض أن يكون قد مات.

غضب مدير المدرسة بشدة واستدعي الأصدقاء الثلاثة إلى مكتبه وعنفهم وتوعدهم باتخاذ أقسى العقوبات ضدهم وربما طردهم من المدرسة. يقول لاري «انتابني ذعر وندم شديدان وأنا أتخيل نفسي مطرودا من الدراسة وأتخيل غضب أهلي والمصاعب التي سأمر بها.. وفي غمرة انشغالي لا حظت أن هيربي متمالك لنفسه وفي غاية الهدوء.. مرت لحظات صمت نطق بعدها هيربي قائلاً..
مهلا يا سيادة المدير، نحن بالطبع أخطأنا ونعترف بذلك ولكن إن أنت صعدت الموقف تجاهنا سترتكب خطأ أكبر..
رد الناظر بذهول: ما الذي تقوله..؟؟!!».

أكمل هيربي .. «لو طردتنا من المدرسة فسينتشر الخبر وسيأتي من سيسألك كيف صدقت حديث صبية لا يتجاوزون الثالثة عشر من عمرهم..؟.. ولماذا لم تتحقق من الخبر قبل أن تقوم بإعلانه؟
رد المدير «لكني تحققت بالفعل..».

واصل هيرب حديثه «.. كل ما فعلته هو أنك اتصلت بالبيت ولما لم يرد أحد اعتبرت أن الخبر صحيحا.. وأعلنته.. وبذلك شطبت اسم ميل من سجل الحياة... هل أدركت حجم خطئك الذي قد يكلفك وظيفتك يا سيدي؟».

ارتبك المدير ولم يقل شيئا بينما استمر هيربي في حديثه قائلاً....«لدي حل ينقذنا وينقذ وظيفتك.. هو أن نعتبر الأمر مزحة سخيفة وانتهت ونضع الأمر خلف ظهورنا».

بعد قليل من النقاش والتفكير وافق مدير المدرسة على المقترح وعلى نسيان ما حدث وكأنه لم يكن.

لم يكتب مراسل صحيفة التايمز القصة لأنه قال أن أحدا لن يصدقها.

أغلق باب المزحة... وبدأ مشوار كل من لاري وهيربي في الحياة.. ليصبح الأول أشهر مذيع بأمريكا ويذكر هذه القصة في كتابه «كيف تتحدث لأي شخص في أي وقت بأي مكان»... بينما أصبح هيربي من أشهر المفاوضين المعاصرين بالعالم وليؤلف مجموعة من الكتب تعتبر مرجعا في مهارات التفاوض والمفاوضات...وهكذا هي الحياة لا تستطيع فيها أن تحكم على الأمور من بداياتها... فكم من مزحة ثقيلة في حينها أسهمت في نجاحات لم تكن تخطر ببال...!!!