Atwasat

خِدع الهزيمة

نورالدين خليفة النمر الأحد 23 يونيو 2019, 12:46 مساء
نورالدين خليفة النمر

مرّ علينا مخادعنا كعادته هذا العام 2019 تذكار الهزيمة العربية أمام إسرائيل 5 يونيو 1967، وفعل حسناً حتى لا نلتفت إليه تجريحاً كابياً للذات. في أحد التذكارات وكمن حرّرته الهزيمة من الوهم اعتبر الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي أن ماوصفت تبريراً بالنكسة كانت هزيمة عسكرية. كشفت ما خسره المصريون والعرب بسبب الحكم العسكري في مجالات الحياة المختلفة. وأبرز الخسارات في: تجريب الديمقراطية والوعي بالإمكانات وإدراك العلاقات بالعالم.

مقالي سيتجاوز الخسارات التي مازال المصريون والعرب يخسرونها من 1967 وبفداحة حتى عام 2019. مدّققاً في مفهوم الخديعة التي وصّفها أو بالأحرى حدّدها الشاعر حجازي في تبادلية غنائية تتساءل من منهما يحمل عبء الهزيمة فيهما: المغني الذي طاف مخدوعاً يبحث للحلم عن جسد يرتديه أم هو الملك المدَّعي مخدوعاً أن حلم المغني تجسَّد فيه. أم خُدعا معا بسراب الزمن الجميل؟!. وها هو الشاعر حجازي يخادعه عمره الجميل الذي رثاه في ديوانه عام 1972 فيصل معه حيّاً متقطع الأنفاس هذا العام 2019 إلى سنْ الرابعة والثمانين. وبما أن جائزة الشعر عزاء الشاعر فإن اتحاد الأدباء العرب على هامش اجتماع أعضائه الاستثنائي في القاهرة من 1 إلى 3 أغسطس2019 سيحتفي بفوز حجازي بجائزة الشاعر أحمد شوقي التي منحها له اتحاد كتاب مصر.

وفيما يشبه الخديعة، ستحضر ليبيا في هذا الاجتماع ممثلة بأمين رابطة أدبائها الذي ـ حسب صحيفة الوسط http://alwasat.ly/news/opinions/214346?author=1 ـ ومن كاتب له دراية نقابية. أفاد بأن الأمين يترأس رابطة وهمية لا وجود لها في الواقع. منذ 2004 وحتى الآن، الذي لايوجد فيه أي جسم نقابي شرعي يضم الأدباء والكتاب الليبيين ". النتيجة أنه لن تتم دعوة بحاثة ليبيين إن وُجدوا ضمن من سيبحثون مصريين وعربا في المنجز الشعري لأحمد عبدالمعطي حجازي، وهذا سيكون مؤسفأ له ومحبطاً للكتاب والشعراء الليبين من جيلي السبعيني الذين أحبوا شعره وتعلّقوا به.

بدأت علاقتي الشخصية بالشعر الحديث، غير المُدرج في المنهاج المدرسي، بالرومنطقيات اللبنانية مهجراً أميركياً،والعودة منه ؛ وبشعر الشابي في تونس الذي قدّمه لنا برصانته الكاتب الليبي خليفة التليسي، وتماهيتُ وجدانيا بشعر مابعد الرومنطيقية التي انهزمت عام 1967 بعد ثلاث سنوات وأزيدُ قليلاً، وبشعر ية المصريين :حجازي وقرينه صلاح عبدالصبور تأخرت حتى عام 1975 ، بعد أن ظهرت ضمن دواوين الشعراء العرب المحدثين مجمعة في مجلّدات الأعمال الكاملة التي تدفقت على المكتبات الليبية. صورهما أبعدتني عن شعرهما فبدت لي صورة عبد الصبور وكأنها لعضو في مجلس الضباط المصريين الأحرار لثورة يوليو 1952، الذين تناسلوا في ملازمي انقلاب الجيش الليبي 1969. بينما الشاعر حجازي بدا لي وجهه الفلاحي كأنه حجر من هرم.

لم تلفتني في أشعار حجازي قصائده التي كرّسها خطاباً شعرياً موازيا للخطاب السياسي المصري الثوري في مدّه وجزره الوطني والقومي العربي، والعالمثالثي التحرّري منذ ما سمّي بانتصار حرب قنال السوبس 1956 ؛ ولامراثيه الغنائية المطوّلة في استقالته المستحيلة بسبب هزيمته الصاعقة أمام جيش إسرائيل1967 التي عبرّ عن اللوعة فيها كـ "الرحلة ابتدأت، وياهواي عليك يامحمد، ومرثية العمر الجميل". وفي وطنياته تجاوزت قصائد كـ "عبدالناصر، وأغنية للاتحاد الاشتراكي، والشاعر والبطل" والقومية "بغداد والموت، وسوريا والرياح، وأوراس" والتحررية "دماء لومومبا، والشهود" منتهياً إلى بعض قصائده المعبرّة عن اغترابه ريفياً في القاهرة ، أو قصائده التي احتفى بها بأصدقائه أو رثاهم فيها. وقصائد قليلة عبرّ فيها عن مفارقات وجودية كقصيدة "إشاعة، و مرثية لاعب سيرك، وتروبادور".

أحببت شعر حجازي كأقراني السبعينين، في ديوانه "كائنات مملكة الليل"، الذي أتاني وكنت مديراً في المنشأة الليبية لنشر الكتب وتوزيعها عام 1980 فقرأت قصائده بشغف ماتع . وكنت أمني نفسي أن أسمعه يلقي بعضها في مارس 2001 بقاعة مهرجان الشعر العربي ـ الفرنسي بمعهد العالم العربي بباريس، ولكن إدارة المهرجان فوّتت علينا الفرصة، واكتفت بأن لا يلقي شعره بل كلمة فقط يقدّم فيها الشعراء العرب المشاركين للجمهور الفرنسي، وهو ماحزّ في نفسه، وفيما يشبه المواساة انتهزت الخروج إلى مأدبة العشاء، وكان قد ترافق مع طلوعنا نثُّ مطر ربيعي، اتقاه حجازي بالبيريه، قبعة توفيق الحكيم الشهيرة، فطفقتُ أرّتل مقطعاً من قصيدته الباريسية: "ومطرٌ كخيط الغزلِ يقطعني وأقطعه" ولم ننقطع عن الحديث في الشعر وقضايا أخرى طوال جلسة العشاء حيث كان كل جلسائنا، وأغلبهم جليسات بمن فيهن زوجة الشاعر أستاذة الموسيقى الجامعية، مستمعين. وماجعل حديثنا أليفاً ودافئاً معرفتي به ليس فقط شاعراً؛ بل شخصاً عبر مرويات الأستاذ المصري محمّد حسنين الذي علمنا الفلسفة الإسلامية في كلية آداب بنغازي 1975 ـ 1978 وكان ابن قريته، وعاشره مدة في باريس.

لم نجذب طرفاً من واقع الثقافة الليبية بحديثنا، فحجازي لم يكن له أدنى إلمامٍ بها، وأنا قدّمت له نفسي أستاذ فلسفة يكمل دراسته العليا في ألمانيا، ومقيم بها منذ عام 1992، وأني في باريس لزيارة عائلية، ومجيئي للمهرجان كان بمحض الصدفة، إذ خابرتُ الشاعر العراقي الباريسي عبدالقادر الجنابي، فأعلمني به، وأن ليبيا غيرُ مدعوّة كعادتها. كما أن الشاعر خالد المطاوع الذي غادر مسقط رأسه بنغازي، منذ صباه المبكر عام 1976، ولم يُعد إليها حتى ذاك العام ، دعاه معهد العالم العربي، بحكم جنسيته الأمريكية، وكتابته للشعر باللغة الإنجليزية، وبسبب ترجمته لأشعار الموجة الحديثة العربية وإصدارها في أنطولوجيا ضمت وقتها إلى جانب الشاعر السوري آدونيس المشاركين في المهرجان سعدي يوسف وفاضل العزّاوي العراقيين.

ننتهي إلى عام 2004 حيث كانت ليبيا غير مدعوّة في احتفالية معرض فرانكفورت للكتاب بالثقافة العربية. والسبب تلكؤ ليبيا لسنوات لتسديد حصصها المالية المقررة في صندوق الجامعة العربية الطرف المشارك لألمانيا في تنظيم المهرجان. ولكن أمين الثقافة الذي تمّ تصعيده للتوّ من مؤتمر الشعب العام تمكن من تسديد الديون الليبية ما أتاح له القدوم دون كتاب ليبيا وأدبائها. فأثار حضوره منفرداً استغراب الجميع. في المساء الثاني كان لقائي الثاني بالشاعر حجازي، في قراءته مساءَ في بيت الشعر الألماني. بعد تقديمه من مدير الندوة بكلمة عمومية تعوزها الدراية، وترجمة للعربية لم توّفق في تقديم رهافة الشاعر وغنائيته الحديثة للجمهور الألماني الحاضر، قدّم حجازي نفسه شاعراً عربيا، معيداً ماكتبه في حداثته بهجائيته "إلى الأستاذ العقاد". انتهزت عقب كلمته فتح باب النقاش للحضور لألقي كلمة قصيرة في الشعرية المقارنة لاستهلاك متع المدينة الحديثة بين الإسكندرية التي كتب فيها قصيدته "يوميات الإسكندرية" وباريس في بعض قصائد من وحيها في ديوانه "كائنات مملكة الليل". وصف الشاعر حجازي في تعقيبه الأخير كلمتي بقراءة العارف بكيف يُقرأ الشعر. وفي الختام وهو ينزل من فوق المنصة رحب بي بريفيته التي لاتخطئها العين، متفاجئاً بدرايتي في الشعرية العربية، التي لم أقدّمها له في باريس. وهو يودعني لم ينس بأن وضع في يدي ورقة بعنوانه البريدي في القاهرة مكتوب بخط يده وجدتها وأنا أقلب مجلّد أشعاره، مُبديا استعداده لنشر أي مقال أكتبه في مجلة "إبداع" التي كان وقتها يرأس تحريرها. ما وصفها بالقراءة العارفة هي ماسينتظره الشاعر الكبير بتفاؤل مشوب بإحباط واقع الثقافة العربية اليوم من البُحاثة العرب إن، وجدوا، الذين سيتداولون شعره بالبحث والتفسير والتأويل. ولن يكون بينهم إلا ليبي واحد هو الأطرش في الزفّة الرئيس المزيّف لاتحاد أدباء ليبي وهمي وغير موجود في واقع الحياة التي تهرب من ليبيا التي يتحارب فيها الجميع ضد الجميع.