Atwasat

صحافة في زنزانة انفرادية!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 18 يونيو 2019, 12:17 مساء
أحمد الفيتوري

1-
أقمنا في جريدة ميادين دورات صحفية في مدن ليبية عدة، في الشمال والجنوب، حينها جعلت محاضرتي تحت عنوان (صحافة في زنزانة انفرادية)، وفي موضوع واحد أيضا: كيف يتسنى للمرء أن يكون صحفيا في السجن وفي زنزانة انفرادية، وأن الإنسان بحاجة للإعلام في السجن أيضا، بل أن العزلة قاتلة متى لم يتسنَ للمرء أن يتواصل، فالاتصال ضرورة للحياة، وأنه كاسر العزلة، خالق للاجتماع ولو عن بعد، حتى أن الفيلسوفة حنا أرندات ترى أن الإرهاب يتحقق بالعزلة، فإنه العنف الأعنف أو كما قالت.
قال سي دخيل: كل يوم جريدة، تاخذها في الليل، ونرجعها اليوم الثاني، ثم علق: ما أوله شرط آخره سلامة.. انسحب بعد تسليمي جريدة اليوم، بفرح وغبطة طفولية غادرت مسرعا كوة الزنزانة الانفرادية، عند مواشير الضوء التي تغمر وسط الزنزانة وقفت أشبع شغفي، أقرأ بتمتمة وحينا بصوت عال الأخبار البائتة في الجريدة. بعد العشاء، ما يتم توزيعه عند الخامسة مساء في سجن الجديدة بطرابلس الغرب، يأخذ زميل الزنزانة التي بجانبي في غناء لازمة (ازاي الهوى يا حبيبي ازاي الهوى) كما مقدمة للإخبار، ثم أخبط باب الزنزانة الحديدي كما خبطات المسرح، لتنبيه الزملاء في زنازينهم المفردة، فآخذ في قراءة ما يتيسر مما جاء في الجريدة المهربة من حارس السجن، أحيانا أنقل لهم أخبارا مصدرها الحارس بل وحتى مخيلتي، كما حمامة زرقاء، المصطلح الذي يطلقه سجناء العالم على الخبر أو الإشاعة الطيبة، ما تنعش الروح.  

2-
ليلة من ليالي الجديدة، نقلنا من الانفرادي إلى الزنازين الجماعية، فأصبحت بقدرة قادر وخليفة خبوش في مكان واحد، أخذنا نعمل وزملاء آخرين على إصدار صحيفة، في البدء صدرت مكتوبة بالفحم على قطعة قماش بيضاء كانت عبارة عن غطاء سرير. ثم طورنا عملنا فاصدرناها على ورق السجائر ومكتوبة بأقلام الحبر الجاف، ما حصلت عليه من سي دخيل، كنا أسميناها (القبوية)، نسبة للقبو قسم السجن الذي أودعنا فيه، أما شعار (القبوية) فهو (صحيفة لا تبحث عن الحقيقة). هكذا تكونت أسرة تحرير لإصدارصحيفة يومية، ليلة الصدور يقوم خليفة خبوش بالخبط على باب الزنزانة، بصوته الجهوري يعلن بشكل مقتضب ومثير عن محتوى العدد القادم.

القبوية / صحيفة لا تبحث عن الحقيقة تنشر أخبار القسم، أما أخبار العالم الخارجي فقمنا بتأليفها، من خلال عمل جماعي يعتمد على تحليلنا للأوضاع وتصوراتنا، التي كثيرا ما طابقت الحقيقة. وطبعا نشرنا مقالات وأعمال أدبية يؤلفها الزملاء الشعراء والقاصون، وابتدعدنا ما اصطلاحنا عليه بالنقد الجماعي، أي أننا نعرض قصيدة مثلا على الزملاء جملة، وفي عملية استقصائية نحصل على أرائهم في القصيدة، التي ننشرها في (القبوية). ما نشرت قصص الزملاء على ما أذكر جمعة بوكليب وفتحي نصيب وعمر الككلي، أما عبد السلام شهاب فقد انفرد بإصدار صحيفة أصدر منها عددين يكتبها وحده كلها، ونشرت قصائد للشعراء محمد الفقيه صالح وإدريس الطيب وسعد الصاوي ومقالات لإدريس المسماري ومصطفي الهاشمي وعبد الله العوامي، أما العمل الصحفي من أخبار وتقارير إخبارية وتحقيقات استقصائية ومقابلات، فكانت مهمتي والزميل خليفة خبوش لاعتبار أننا صحفيان. وهذا التقسيم في الحقيقة كان مرنا، ولهذا شارك الكثير من الزملاء في مهام مختلفة، من لم أذكر من أسمائهم قاموا بأعمال أخرى، ومنهم من نسيت بعد هذه الفترة الزمنية، منذ آخر عام 1978م وحتى 1988م مدة السجن التي عشناها ... وفي الأخير ككل عمل خلق اللحمة والاختلاف، لكن جعلنا ندرك أنه بالإمكان أبدع مما كان بل حصل أن فعلنا ذلكم... 

3-
ليلة سوداء من ليالي سجن الجديدة، وجدنا أنفسنا في سجن الحصان الأسود (بورتا بونيتو)، حيث تم إصدار أحكام جائرة بالمؤبد، على اثني عشر سجينا في ما عرف بقضية الصحافة، وتم فك أسر مجموعة لأن المحكمة أو الحاكم المتعسف قرر براءتهم، كخليفة خبوش وعبد الله العوامي وسعد الصاوي...

سجن بورتا بينتو بنته إيطالية عهد موسوليني، وطور بالتضييق على السجناء عهد العقيد معمر القذافي، لذا في ذا السجن استشري خنقنا، حتى أننا أطلقنا على أحد أقسامه التي مررنا عليها كنية المحقرة!، وفيه تم جمع سجناء الرأي من كل ليبيا فكثرنا وتنوعنا، ومن هذا بدأنا نعيش حالة البحث المضني عن (كوة للتنفس)، كما عنون إدريس الطيب فيما بعد ديوانه، ما أصدر بعد مغادرة السجن. وطبعا رغم قسوة الحجر مارسنا المقاومة بالكلمة، فأنشأنا شغلا ثقافيا منها ندوات ثقافية، ندوة منها استمرت أشهرا تحت عنوان (ما بعد بيروت)، وهي ندوة بدأت بعد الاجتياح الصهيوني لبيروت، وفيها قدمت أوراق في الفكر والنقد... وغير ذلك  

ليلة أظلم من ليالي بورتا بنيتو بتنا في سجن بوسليم، حيث عشنا المدة الأطول من سنوات السجن التي قضيناها، في هذه الفترة الزميل فتحي نصيب أنشأ كتيبا بعنوان "نوافير" كان بمثابة شرارة استعادة نشاطنا الصحفي، ما عاد زخمه وتنوع، ومنه صدور مجلة ثقافية فنية تحت مسمى (النوافير)، ودار نشر للكتب المؤلفة والمترجمة. 

لقد كان السجن كما برج بابل، متعدد اللغات، من حيث أن هناك زملاء لهم لغة مضافة للغة الأم أو أكثر، وفي السحن أجانب منهم سجنان من إيطاليا، يحصلان على الزيارة الممنوعة على غيرهم بالذات السجناء الليبيين، كانت السفارة الإيطالية تقوم بزيارتهما بين الحين والآخر جالبة لهما بعض المجلات والكتب الإيطالية ومن ذا وغيره وضع حجر أساس مكتبة صغيرة...
وقد نتمكن من سرد بقية لهذه القصة في مناسبة قادمة ....