Atwasat

البي بي سي بتتكلم عربي

سالم العوكلي الثلاثاء 18 يونيو 2019, 12:15 مساء
سالم العوكلي

سأبدأ حديثي عن البي بي سي بطرفة حدثت، إبان ستينيات القرن الماضي، في قريتي "القيقب" الواقعة في قمة الجبل الأخضر شرق ليبيا، وكانت عائلتان فقط تملكان جهاز الراديو في ذلك الوقت، ما يجعل شيوخ القرية المولعين بمتابعة أخبار حرب الـ 67 ينقسمون بين عائلة منصور وعائلة بالحسن (أسماء العائلات مُتصرف فيها). معروف عن عائلة منصور انضباطها وصدقها وأمانتها، بينما عائلة بالحسن معروف عنها المقالب وفبركة الحكايات والمبالغة، وحين يعود الشيوخ للجلوس على مسطبات السوق وسط القرية يبدأ النقاش بينهم حول ما سمعوه من أخبار في نشرة البي بي سي التي كانوا يسمونها نشرة هنا لندن، وحدث مرة أن أدلى أحدهم بخبر أثار نقاشا حاميا بينهم، بين مُصدِّق ومُكذِّب، وسأل أحدهم صاحب الخبر أين سمعته.. في راديو عائلة منصور أم راديو عائلة بالحسن؟ فقال: في راديو عائلة بالحسن. فرد عليه فورا: دعك منه راديو بالحسن كذاب. ووقتها لم تثر هذه الملاحظة الطريفة أي نوع من الضحك لأن الشيوخ تقريبا وافقوه على رأيه، ومن منطلق أن هذا الكائن الإلكتروني يتأنسن بقدرته على الكلام وبالتالي يكتسب طباع العائلة القاطن عندها.

العام الماضي وبعد أكثر من نصف قرن من هذه الحادثة كنت في حوار مع بعض الأصدقاء نتناقل ما سمعناه من أخبار عن أحداث ليبيا ونحللها، وحين أدليت بخبر يفند خبرا أتى به أحد الأصدقاء ، قال لي: أين سمعته ؟ فقلت له في البي بي سي. فاستطرد: العربية أم الإنجليزية؟ فقلت له البي بي سي العربية، فقال لي تقريبا نفس ملاحظة الشيخ القروي قبل عقود: لا. دعك منها، البي بي سي العربية تكذب. وضحكت لأني تذكرت حكاية القرية القديمة ورويتها للأصدقاء ليعرفوا سبب ضحكي.

ومرة أخرى كان صديقي الذي لا يشك في كذب القنوات الناطقة بالعربية على يقين بأن الوسيلة الإعلامية تكتسب خصائص اللغة وقومها المتحدثة بلسانهم، مثلما اعتقد الشيخ القروي أن جهاز الراديو يكتسب طبائع العائلة التي تملكه، والأمر لا يختلف كثيرا عن تعليق أحدهم حين شدا سيد مكاوي بأغنية "الأرض بتتكلم عربي" قائلا: أكيد تكذب الأرض مادام تتكلم عربي. ولم نضحك وقتها لأن السخرية طالتنا وطالت إحدى مقدساتنا، لكن لا بأس من قليل من السخرية لأنها تُقوّض المقدس، وكثير من جلد الذات لأنه خطوة نحو نقدها.

يذكرني هذه التمييز اللساني بحكاية صديق آخر كان متزوجا من امرأة إنجليزية ولديه منها أولاد، وحدثني مرة عن مفارقة تتعلق بأولاده الذين إذا سألهم بلغته العربية عن أمر ما ملتبس يتعلق بسلوك خاطئ، فإنهم يكذبون عليه وينكرون، ولكن بمجرد أن تسألهم والدتهم باللغة الإنجليزية يطأطئون رؤوسهم ويجيبون بصدق، وعبّر مرة لزوجته عن انزعاجه من هذا الأمر فبررته بكونه يكذب عليهم كثيرا (بالعربي) ويعدهم بوعود لا يفي بها غالبا، وهو ما جعلهم يربطون لغته العربية الليبية بالكذب، بينما لغة الأم التي لم يحدث أن كذبت عليهم ارتبطت بالصدق، ويبدو هذا التبرير معقولا ومنطقيا، ويبدو أنه ينطبق أيضا على البي بي سي العربية التي كما أتابعها تعمل على محو تاريخ البي بي سي الإنجليزية، والتي ربما، عن غير وعي أو قصد، بمجرد أن انتقلت إلى حقل لغة تستخدم كثيرا في هذا الزمن، وفي وسائل الإعلام خاصة، في صياغة أكاذيب مفضوحة، مثلما يعرف على الكثير من الناطقين بها عدم إيفائهم بوعودهم ومواعيدهم، من رؤساء الدول والحكومات إلى أصغر موظف في مكتب خدمي في قرية نائية. 

ما أتهم به اللغة العربية ومشاكلها البنيوية والقيمية فيه تجنٍ لأن اللغة أداة في فم الناطقين بها وهي طوع أمرهم، ولكن، من جانب آخر، ثمة فارق بنيوي بين لغة تتباهي بصِيَغ المبالغة نمت وترعرعت في حضن الخطابة والشعر، والفصاحة كغاية في حد ذاتها، وكانت تَعتبِر "أعذب الشعر أكذبه"، ولغةٍ اشتبكت مبكرا مع الفلسفة والعلم والمنطق (وهذا لا يبرئ وسائل الإعلام الناطقة بلغات أخرى من تحريف الحقائق لكنه يتم بطرق ذكية؛ على الأقل تحترم عقل المشاهد أو المستمع) لكني لا أتجنى حين أتهم قناة البي بي سي العربية بنوع من التعمية والتلاعب بالحقائق؛ حتى لا أقول الكذب، لأنها في النهاية فرع من مؤسسة عريقة ولا ترتكب الكذب المباشر والمفضوح مثلما تفعل القنوات العربية الأصيلة الفصيحة، ولوي الحقائق أو نبرة الانحياز التي تحيل بعض الأخبار إلى وجهات نظر لمسته وأنا أتابع أخبارها عما يحدث في ليبيا (التي على صلة مباشرة بأخبارها ووقائعها) وفي السنوات الأخيرة خصوصا، وكثيراً ما أشعر أن بها مسا من قناة الجزيرة في تحرير بعض الأخبار، أو إدارة بعض الحوارات، أو انفعالات بعض مديري النقاشات فيها المنحازة، أو توجيه الأسئلة المشحونة بإجابات مرغوبة، وغير ذلك مما يجعلني أبحث عن الريموت كونترول.

هل ثمة علاقة بين البي بي سي وقناة الجزيرة؟ وهل صحيح ما يقال أن الجزيرة هي في الواقع ابنة شرعية، غير شرعية، للبي بي سي وتكونت في رحمها دون أن تقطع المشيمة حتى الآن؟ وأن ثمة وشائج ليست ظاهرة بقوة تربط بينهما، والسؤال الذي يراودني غالبا عن هذه القناة (البي بي سي العربية) المتفرعة من مؤسسة رصينة لها تاريخ يحترمه الكوكب كله (وبما أن قناة الجزيرة مرهونة لتيار أيديولوجي يعتبر "التقية" التي تبيح الكذب والنفاق من أجل مصالحه جزءا من عقيدته): هل ثمة علاقة لجماعة الأخوان المسلمين بنسخة البي بي سي العربية أو نفوذ فيها؟ خصوصا وأن مقر هذه الجماعة ونفوذها كان في لندن منذ عقود، وهي جماعة تجيد تقنيات التمكين والتسرب داخل المؤسسات دون أن تثير انتباها؟ أم أن الدعم البريطاني الثابت لهذه الجماعة منذ تأسيسها قبل 90 عاما مبعث لهذا التواطؤ الذي يجعل من التضحية بالسمعة ضرورة أحيانا. 
أم للأمر علاقة بالاتفاقية التي وقعتها قناة البي بي سي مع قناة الجزيرة الذي بموجبه تُتبادلان المعلومات الإخبارية والمراكز الصحفية حيث يقول رئيس قسم الأخبار في البي بي سي، في موقع القناة على الإنترنت، أدريان فان كلارفن: "إن الاتفاق سيعود بالفائدة على جميع المشاهدين في العالم وأن قناة الجزيرة أثبتت سمعتها كقناة رئيسية عالمية". ويضيف مؤكدا: "أنه بالعمل جنبا إلى جنب مع الجزيرة في مجال جمع الأخبار، سنتمكن من تقديم خدمات إخبارية أكثر شمولية لمشاهدي البي بي سي في بريطانيا وفي العالم، وبموجب الاتفاق ستتمكن الـبي بي سي أيضا من استخدام القمر الصناعي للجزيرة في العاصمة الأفغانية كابول.

" وهذا المديح الصادر عن أحد أكثر الأشخاص حرفية ومهنية في عالم الصحافة، وعن مؤسسة عريقة تقيم في إحدى أعظم الديمقراطيات في التاريخ البشري، لقناة تقيم في إحدى الإقطاعيات السياسية العربية عرف عنها انحيازها ولا مهنيتها وفبركتها للأخبار وتوجيهها لصالح مزاج السلطة الممولة لها، يثير الكثير من الشكوك والشبهات، وأستغرب هذه الاتفاقية التي لا أجد لها تفسيرا سوى حاجة القناة لتمويل أو دعم، وما نعرفه أن مؤسسة البي بي سي تقريبا هي القناة الوحيدة الممولة من المجتمع البريطاني ولم يعرف عنها الخضوع لأية سلطة سياسية أو أيدلوجيا ما طوال تاريخها، ولكن ربما كل هذه الأدواء جاءت مع تعريبها ونقلها لفضاء لغوي مازال حقيقة لم تتأسس فيه أو عبره أية مؤسسة إعلامية مهنية، لأن الإعلام الشفاف والأقرب للصدق والحقائق والمحايد ارتبط تاريخيا بوجوده في فضاء الديمقراطية، ولا يمكن الحديث عن قناة بكونها "أثبتت سمعتها كقناة رئيسية عالمية" وهي تبث من دولة لا يوجد فيها رأي مخالف أو حقوق إنسان أو حرية تعبير مثلها مثل كل الدول العربية. وعموما ليس الأمر مقتصرا على الجزيرة فلو أن الاتفاقية كانت مع قنوات عربية أخرى تبث وفق مزاج النظم العربية بكل أنواعها لحدث نفس التشوه.

وحالة البي بي سي الإنجليزية حين تتكلم بالعربية شبيهة بحالة أولاد صديقي العربي الليبي من أم إنجليزية الذين حين يتكلمون معه بالعربية لا يقولون الحقيقة لارتباط هذه اللهجة في تكوينهم الذهني بالكذب الذي تعودوا عليه في ظل سلطة الأب.