Atwasat

فلوس

سعاد الوحيدي الأحد 16 يونيو 2019, 12:19 مساء
سعاد الوحيدي

التطرّف (في اللغة) يفيد الانحياز لأقصى الطرف في عنجهية تعرقل الوعي بالمسافة، وبالعلاقة ببقية تركيبة "الوسع". ومنه أنواع، حيث لا يقتصر التطرّف على العلاقة بالمعتقد، فثمة في الحب تطرف، وفي المقام وفي الترحال... ولعل أبشع أنواع التطرّف ذلك المرافق للانكفاء على الذات (على قصر نظرها) عند نحت أي موقف. على النحو الذي يفرٓخ في تلافيف "الحدث" المُنجز، مجزرة تتطاير في أجوائها رؤوس ذات القرار.

معمر القذافي على سبيل المثال، والذي كان يرٓوج لنفسه عروبياً بامتياز/ قبل أن يتحول إلى أفريقيٍ بامتياز مُضاعف... شطحت به الكثير من مواقفه "المتطرفة" في هذا الاتجاه، إلى قرارات كانت تعشعش في رأسه، قبل أن تولد، حزمة من التناقضات/ والأخطاء التاريخية الكبرى، وذلك دون أن يجادله مخلوق، أو يشير عليه أحد برأي سديد. (غابت عن القذافي حكمة الاستعانة بالمستشارين، ووقع غيره في أخطاء أخرى بالخصوص). من ذلك كان قراره بتغيير تسمية العملة الليبية من الجنيه (والقرش)، إلى الدينار والدرهم. (دون نية في الخوض في الخلفية القيمية للعملة في سياق هذا المقال)، وذلك في منحى تحرري وفق وجهة نظره، يزيل عن ليبيا أغلال التبعية للغرب، ويعود بها إلى حضن الإرث التاريخي للأمة العربية/ الإسلامية التي كانت تتعامل بالدرهم والدينار.

على أن ما كان يحدث أنه قد اقترف بهذا القرار إثماً مزدوجاً بحق عروبته/ وبصورة أبشع بحق أفريقيته، وألقى بالسيادة الليبية على العكس، في فلك التبعية لموروث الغرب، وذاكرة الغرب، وعملة الغرب. وحرم ليبيا من تاج من ذهب كان على رأسها الأفريقي/الإسلامي الجميل.

ولفهم هذا المعنى بالذات، يحتاج الأمر العودة إلى القرار التاريخي "للجنة النقد الليبية" التي تشكلت عام ١٩٥٢ (بعد استقلال ليبيا)، القاضي بتوحيد العملة الوطنية الليبية. لأنه عندئذ كانت ولايات ليبيا الثلاث، طيلة فترة الإدارة العسكرية التي تلت الحرب العالميةالثانية، (ودون الخوض في صيرورة آليات المقايضة في ليبيا قبل ذلك)، تتداول كل منها عملة تخصها: (برقة الجنيه المصري، وطرابلس الليرة العسكرية، وفزان الفرنك الجزائري). حيث ألغى قرار لجنة النقد؛ باعتماد الجنيه عملة ليبية واحدة، مشروعية التداول بتلك العملات المفرِّقة، ووحد التداول النقدي الليبي بالجنيه لا غير، (صدر أول جنيه ليبي في 1952/3/24، وكان يعادل الجنيه الإسترليني)؛ ليجٓذر بشكل نهائي وحدة الوطن، ووحدة التراب الليبي.

هذا الجنيه الذي اعتقد القذافي أنه رسمٌ أوروبيٌ، محاكٍ لعملة الإنجليز الكفار، هوالذي أراد كسر رقبته، ورميه في سلة مهملات الوطنية الليبية/ الإسلامية، والعودة للتداول بالدرهم والدينار كما كان يفعل الآباء الأوائل. هكذا وفق قانون رقم 63 لسنة 1971، تم تغيير تسمية العملة الليبية من الجنيه (والقرش)، إلى الدينار(والدرهم). وفُصل عن الاسترليني، "وتغير غطاء العملة بسبائك أو نقود ذهبية أو نقود أجنبية قابلة للتحويل...".

ولكن...
سرعان ما سيتبين من مراجعة جذور هذه العملات، خطأ القذافي بخصوص ما اعتقده خياراً عربياً. فالدينار (رغم أنه سُك منه بالفعل بهذا الإسم في سياق الدولة/ أو الدول الإسلامية منذ القرن السابع)، ليس إنه فقط عملة رومانية / بيزنطية (ديناريوس)، وليست عربية، بل ليس هو أفضل ما كان يُسك في بلاط الروم. حيث كان الأوريوس الذي كان من الذهب الخالص يتقدم عليه بمسافة إعتبارية، ولا يأتي الديناريوس الذي يُسك من الفضة، إلا في المرتبة الثانية في الأهمية والقيمة النقدية.

وكان الدينار المتداول في صدر الإسلام يتم ضربه في الخارج، وعلى هيئة النقود البيزنطية وبصور أباطرتها، مع إضافة عبارات التوحيد لاغير. وحتى عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، الذي بدأ بسك الدنانير (وإن استمرت في البداية على طراز العملات البيزنطية)، بدار السك في الإسكندرية (ومن هذا جاء تعبير "المصاري" في بلاد الشام، للإشارة بالنقود المضروبة في مصر)، وفي عهده فقط سيتم نقش صورة خليفة المسلمين على العملة.

أما الدرهم فليس هو غير الدراخما؛ العملة الإغريقية الأعرق في تاريخ أوربا (والتي استمر التعامل بها في اليونان لأكثر من عشرة قرون، وحتى بدايات هذا القرن، عندما تحولت اليونان للتعامل باليورو عام ٢٠٠٢). وقد اعتمد الإسكندر المقدوني الدراخما عملة موحدة لليونان (تتباين قيمتها بأوزان المعادن في صنعها)، ونقلها إلى حيث وصل ملكه. بما في ذلك بعض المناطق العربية، حيث صارت تعرف بالدرهم.

بينما "القرش"، (وإن كانت المفردة مقتبسة لغوياً)، فهو عملة عثمانية/ إسلامية كان لها ثقلها الاقتصادي المميز خلال حقبة غير قصيرة من عهد الدولة العثمانية، قبل أن تطغى عليها الليرة الذهبية في فترة لاحقة. حيث تأكد القرش كعملة رسمية للدولة في عهد السلطان سليمان الثاني، (والذي سك القرش، ليعادل العملات الأوربية السائدة حينها وهي غروسو). على أن الغريب في أمر القرش أن ذكره سيتلاشى مع الزمن في تركيا أمام سطوة الليرة، إلا أنه استمر حاضراً، ومحفورأ في القاموس اللغوي في بعض المناطق العربية، حيث هيمنت الدولة العثمانية لزمن.

أما الجنيه فهو ترجمة للكلمة الإنجليزية Guinea والتي تفيد الإشارة للسك في غانا. وهنا بيت القصيد. حيث كان لإمبراطورية غانا الأفريقية، والتي عانقت الإسلام منذ بدايات الفتح الإسلامي لأفريقيا، مجد تاريخي ساطع الحضور. استند إلى المخزون الهائل من الذهب الذي كانت تتمتع به أراضي هذه الإمبراطورية؛ الممتدة ما بين نهر السينغال غرباً وحتى نهر النيجر شرقاً. والتي تمكنت من فرض هيمنتها الاقتصادية على طريق البحر، على امتداد شواطئ الأطلسي وحتى بحار الشمال. حيث صارت عملة الذهب الغانية تمثل الوحدة النقدية الأكثر ضمانة، وإليها استند النشاط الاقتصادي لجزر الإنجليز لفترة غير قصيرة، حتى إنها تركت بصماتها الحضارية على مسمى العملة الوطنية البريطانية "الجنيه". هذا الجنيه، والذي كان قد عاد عبر الإنجليز إلى مصر وليبيا فيما بعد، هو الذي وقف القذافي ضده. ونهض بالقانون وفق هذا المعنى، ليستبعد العملة الأفريقية/ الإسلامية من ليبيا، واستبدالها بعملة يونانية ورومانية، في سابقة نوعية لتجسد حدث يحمل في جوفه، نقيض ما قُصد به.

يبقى أن العملة "عربية المسمى" الوحيدة في حقيقة الأمر، هي "الفلس"، المتداولة حتى الساعة في بعض مناطق الشرق العربي. وجمعها "فلوس"، الكلمة السائدة بامتياز في القاموس الليبي اليومي. ومنها الإفلاس، "ومفلس"، الصفة الملازمة لعاثري الحظ مثلي!!!