Atwasat

الشرعية الميتافيزيقية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 16 يونيو 2019, 12:17 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

اهتم سالم العوكلي بمقالي "الشرعية الموهومة" المنشور بـ "بوابة الوسط" 2/ 6/ 2019 ، ورد عليه بمقال عنوانه: بين "الشرعية الموهومة" والشرعية المعدومة. نشر بـ "بوابة الوسط" أيضا 11/ 6/ 2019. وهذا أمر محمود، فالمناقشة الفكرية الرصينة (التي نلتزم بها أنا وسالم) أمر حيوي في توضيح كثير من المسائل، ليس للمتناقشين أنفسهم فحسب، بل وللقراء المتابعين أيضا.

كانت الفكرة المركزية في مقالي المشار إليه تفنيد الدعوة إلى استئناف الحكم الملكي في ليبيا من خلال امتداد الأسرة الملكية، على اعتبار أنهم ورثة شرعيون لنظام شرعي حكم ليبيا. وأكدت هناك على أن هذه الشرعية المروج لها هي شرعية موهومة. فليبيا ليست إقطاعية أو مزرعة صودرت من الأسرة الملكية ولاحت الآن إمكانية استرجاعها وفق "وثائق" مُلكية، مشيرا إلى أن الشرعية المدعاة لم تكن شرعية تاريخية كان يحظى بها الملك محمد إدريس السنوسي وإنما هي شرعية "توافقية" أنتجتها مخاضات ظروف معينة. وقلت أيضا " أنني لا أؤمن بأية شرعية سوى الشرعية الديموقراطية الناتجة عن انتخابات وفقا للشروط المعروفة".

يحاجج سالم العوكلي بأن "عمر هذه الدولة الناشئة كان وقتها لا يتجاوز العقد منذ إعلان استقلالها كدولة مستقلة لأول مرة عن طريق منظمة الأمم المتحدة، وفي هكذا ظروف يصبح الحديث عن الشرعية بالمعنى الذي قصده الككلي ملتبسا ومعقدا، وعن طبيعة النظام السياسي أكثر التباسا، بينما الحديث عن نظام ديمقراطي أو أحزاب سياسية شيئا يشبه الطرفة". والحقيقة أن تعبير سالم العوكلي هنا مخفف، الأمر الذي يسمح بمناقشته. فقد قال "يشبه الطرفة" ولم يقل "طرفة". أي، بما أنه "يشبه" الطرفة ففيه شَبَه ما بالجدية أيضا. وبما أن سالم العوكلي لم يجردني من الجدية تماما فأعتقد أنه سيأخذ حجتي بعين جادة. وحجتي هنا أن دعاة عودة الملكية أنفسهم يشددون على أن النظام الملكي كان نظاما ديموقراطيا وكان يصون حرية الرأي. وهو أمر ينفيه الواقع. فقد زُوًرت الانتخابات وحُل البرلمان وحُظرت الأحزاب سنة 1954، بعد أقل من ثلاث سنوات من إعلان الاستقلال (وهذه المدة مكافئة للمدة التي أصدر فيها القذافي قانون تجريم الحزبية سنة 1972)، وكانت الكتب تصادر والصحف تصادر وتغلق ويطلق الرصاص على المتظاهرين ويسقط قتلى وجرحى. وسالم العوكلي يتفق معي هنا أن النظام الملكي الليبي لم يكن ديمقراطيا. بعتبيري: كان نظاما قمعيا، إلا أنه لم يكن نظاما استبداديا مثل النظام الذي قوضه وقام على أنقاضه.

ومن جانب مبدئي، ليس هناك ما يبرر الممارسات غير الديمقراطية. يقول سالم العوكلي في سياق حديثه عن "الشرعية الوراثية" أي الأنظمة الملكية وما في حكمها "لا أحد ينكر أن الحياة السياسية والنشاط الحزبي كان في أفضل حالته زمن الحكم الملكي في مصر، مثلما كان في المغرب والأردن والكويت كنظم وراثية أفضل من الجمهوريات المزعومة". وما دام الأمر هكذا فلماذ نبرر للنظام الملكي الليبي مجافاته للديمقراطية، مثله في ذلك مثل "الجمهوريات المزعومة"؟!. وطالما أنه من المرجح، على الأقل، أن تكون الأنظمة الوراثية أفضل من سواها، لماذا كان سالم العوكلي يعترض على مسعى توريث معمر القذافي وحسني مبارك وحافظ الأسد الحكم لأبنائهم؟!.

يتعلل سالم العوكلي أيضا بأن النظام الملكي في ليبيا كان (خلال ثمانية عشر عاما) "في طور تأسيس الدولة من تحت الصفر، ومازال في خضم معركته البيولوجية لتأهيل السكان جسديا، فخاض حربه لسنوات على الأمراض المستوطنة التي كان يعاني منها معظم السكان مثل الجرب والأنيميا والرمد والديدان المعوية وغيرها، هذا فضلا عن الأمية في ذلك الوقت التي كانت تتجاوز نسبتها 95% ، بينما خريجو الجامعات لم يتجاوز عددهم العشرين خريجا، ولا أحد ينكر مدى اهتمام النظام الملكي بالتعليم في جميع مراحله ولا مخرجاته المهمة من التكنوقراط الذي ساعد في بناء دولة تميزت بتركيزها على نفاذ القانون وتطوير الإدارة والرقابة كمقومات أساسية للدولة الحديثة". هذا التعليل يذكرني بشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" الذي رفعه جمال عبد الناصر. إذ هنا لا يذكر سالم العوكلي مقوم الديمقراطية باعتباره في صدارة "مقومات الدولة الحديثة".

ما استغربته بالفعل، هو أن سالم العوكلي "انبرى" للدفاع عن حظر النظام الملكي للأحزاب بتعلة "أن كل [هكذا، بأداة تأكيد جامعة مانعة!] الأحزاب القائمة كانت في الواقع فروعا لأحزاب خارج الحدود، مثل القوميين أو البعثيين أو الأخوان أو الشيوعيين". أريد أن أذكر سالم العوكلي بأن النظام الملكي منع الأحزاب كافة بما فيها تلك التي ليست "فروعا لأحزاب خارج الحدود" من مثل "جمعية عمر المختار" وهي تنظيم سياسي، و "حزب المؤتمر الوطني". ثم هل يستنكر سالم العوكلي على الليبيين تأثرهم بالأفكار السياسية الموجودة في المنطقة والعالم، على اعتبار أنها أفكار وافدة ومنشأها ليس ليبيا قحا؟!. هل ليبيا وشعبها حزيرة (أو ينبغي أن تكون جزيرة) معزولة عن العالم ومعقمة ضد فايروسات الأفكار الوافدة؟!. في هذه الحال ما الذي بقي لنا من حرية الرأي؟!. وألا يرى سالم العوكلي معي أن فكرة الدستور، التي يتمسك بها، وأتمسك بها أنا أيضا معه، قادمة من وراء الحدود البحار؟.

وأنا أقول أن سالم العوكلي يتمسك بالديمقراطية لأنه يقول في مقاله محل النقاش أنه يعتقد بالشرعية كما عرفتها أنا في مقالي الذي ناقشه وهي"الشرعية الديمقراطية الناتجة عن انتخابات وفقا للشروط المعروفة" وأن إيمانه بهذه الشرعية جعله "مناصرا للجيش الليبي باعتباره منبثقا عن قرار من سلطة شرعية ناتجة عن انتخابات وفقا للشروط المعروفة". يقصد هنا طبعا سلطة البرلمان. أتفق مع سالم العوكلي في أن البرلمان نتج عن "انتخابات وفقا للشروط المعروفة". لكن معروف أن البرلمان تم في ما بعد اختطافه وتكتيفه وصار تحت "شرعية بو عكوز". وبذا أصبح مسلوب الإرادة، ولا شرعية لمن لا إرادة له.

يرى سالم العوكلي، في سياق توضيح شرعية استئناف الملكية، أن المنادين "بعودة الشرعية الملكية كانوا محمولين على حنين جارف لسلطة روحية". وهذا صحيح. لكن ما ينبغي التذكير به أن هذه السلطة الروحية التي تحظى بها العائلة الملكية تكاد تكون، لأسباب تاريخية واجتماعية، محصورة في المناطق الشرقية من ليبيا، أي إقليم برقة، وهي في حكم المعدومة في غرب ليبيا. ويشير سالم العوكلي إلى "أن ما يلفت النظر أنه بمجرد انحسار سلطة النظام السابق عن بعض المناطق في الأسبوع الأول من حراك فبراير اكتظت الميادين والشوارع في المدن والقرى وبشكل عفوي بديكور تلك الدولة الآفلة وبمؤثراتها الصوتية والبصرية، العَلَم والنشيد وصور الملك وولي عهده وحتى أناشيد وأغاني تلك الحقبة، ليتضح أن ما حدث فعلا هو العودة تقريبا إلى يوم 31 أغسطس 1969، باعتباره آخر عهد بالدولة الدستورية، وكان ذلك الديكور يشبه استفتاء شعبيا غير مقصود حول البديل وحول عودة الشرعية، فهي شرعية "موسومة" شعبيا وليست موهومة جاءت بعد عقود من شرعية معدومة". ما لم يذكره سالم العوكلي هنا أن "بعض المناطق" التي انحسرت عنها سلطة النظام السابق في الأسبوع الأول هي مناطق إقليم برقة. وبالتالي تمت المبادرة هناك إلى إحياء ديكور "تلك الدولة الآفلة" على النحو الذي أورده وبمقتضى "حنين جارف لسلطة روحية". فما كان من المنتفضين في مناطق غرب ليبيا إلا القبول بالأمر الواقع، حفاظا على الوحدة الوطنية، مثلما قبلوا في السابق، ولنفس الهدف، بتولي محمد إدريس السنوسي حكم ليبيا وتنصيبه ملكا.

أخلص إلى القول أن ليبيا أصبحت رهينة "الشرعية الموهومة" و "الشرعية المخطوفة" أي شرعية البرلمان المرتبط بإرادة "بو عكوز" ومن يقف وراءه حاليا. وكلا "الشرعيتين" شرعية ميتافيزيقة.

ملا حظات:
وردت في مقال سالم العوكلي الذي ناقشنا بعض أطروحاته أعلاه معلومات غير صحيحة، أرى من الأنسب الإشارة إليها هنا:
* أورد في مقاله ما يشير إلى وجود حزب شيوعي في ليبيا عندما حظر النظام الملكي الأحزاب سنة 1954. ولم نسمع بهذا الأمر على الإطلاق.
* أشار إلى أنه كان للناصرية حزب في ليبيا، والحقيقة أن الناصرية كانت مجرد تيار سياسي شعبي عفوي غير منظم مرتبط بتوجهات عبد الناصر كزعيم.
* ذكر أن أول تصدير للنفط جرى سنة 1963. والواقع أن أول شحنة نفط صدرت حدثت سنة 1961.
* في سياق تعديده لإنجازات النظام الملكي ذكر مكافحته للأمية. إذا كان يعني هنا مكافحة الأمية من خلال نشر التعليم الأساسي فهذا صحيح. لكن المكافحة الموسعة للأمية حدثت في عهد معمر القذافي من خلال فرض إجبارية التعليم حتى نهاية المرحلة الإعدادية، وفتح فصول محو الأمية لدى الكبار ليلا وجعلها شبه إجبارية.