Atwasat

قصة قصيرة ولوحة سريالية!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 11 يونيو 2019, 12:56 مساء
أحمد الفيتوري

1-
أصبح الصبح عليّ ولوعا بالسرد فالفن، وهذا جمع بيني والصديقين الفنان التشكيلي محمد نجيب والقاص عبد السلام شهاب، الأول رسم الكاريكاتير واهتم بالتشكيل فالفوتوغرافيا، والثاني كتب القصة القصيرة الواقعية والواقعية الفنتازية في إبداع مميز، لكنه انقطع بعد أن قضى عشر سنوات في السجن في اتهام بالانضواء في حزب، قضية جمعتني معه في السجن تلك السنين الطويلة. 

لقد بدأت الكتابة والنشر في مقتبل العمر وعملت في جريدة (الجهاد) ببنغازي، حيث نشر (محمد نجيب) رسوماته الكاريكاتورية، وأيضا كتب (عبد السلام شهاب) القصة القصيرة. في هذه الفترة أتردد، باعتباري مسئول اللجنة الثقافية، على مقر فرقة (المسرح الحديث) القديم، ما كان (سينما النهضة) فأصبح في بداية السبعينات، في إطار حملة تطوير، مدرس سيارات. في هذه الفرقة المسرحية التقيت الفنان (محمد نجيب)، من شارك حينها في معرض تشكيلي بلوحات سريالية، لافتة بأسلوبها الحداثوي، والخامة ما تمثلت في الرسم بأقلام الحبر الجاف الملونة. 

ذات مرة جاءني نجيب بكراسة تضم مخطوطا يحتويه غلاف، عليه رسومات لفتيات شعورهن شقراء وجوههن بيضاء وعيونهن زرقاء، يلبسن فساتين زرقاء قصيرة. طالعت المخطوط فكان رواية بوليسية سيكولوجية، فيها البطل المجرم يتقن ارتكاب جرائمه ولا تفلح الشرطة في تتبعه وبالتالي القبض عليه، كان يختطف الفتيات ذوات الملمح الأوربي زرق العيون، ويقتلهن دون أن يمسهن مما حير الشرطة، فالجريمة المرتكبة ليست لغرض جنسي أو مالي، غياب المبرر كما حير الشرطة هو لغز الرواية، التي كتبت كلعبة فنية تشد القارئ، لو استمر نجيب في كتابة مشابهة كنا كما أعتقد امتلكنا كاتب رواية تحرٍ مميز.

لكن الأهم أن بداياته الأولى كانت الفن التشكيلي ما ترادف وشغف بالصورة الضوئية، وأما رسم الكاريكاتير فقد جافاه مبكرا عقب لوحات نقدية لم ترض عليها السلطة التي حققت معه وهددته. وقد ظل الشغف بالصورة يرافقه فيما أخذت يده تثقل عليها الفرشاة، ولهذا أمسى الفنان الصديق (محمد نجيب) يغطس في بحر الحياة، حتى بات الفنان فيه كظل سربله الظلام، الظلمة ما عمَت البلاد منذ سبعينيات القرن الماضي وعسف النظام السياسي وتعسفه. 

2-
خلال الفترة الأولى لعلاقتي مع (محمد نجيب)التقيت صديقه (عبد السلام شهاب) ما لفتت كتاباته نظري، فالقصة القصيرة التي يكتب تتميز بأسلوب واقعي مغاير: الأحداث تبدو فنتازيا رغم واقعيتها، اللغة النثرية التقريرية توحي بالشعر وظلاله، الدلالة محملة بجمالية حية نابضة بالتعاطف مع الشخصيات، هذا لفت نظر القراء المميزين لكتابة (عبد السلام شهاب)، من بدأ كشهاب يمخر سماء حالكة الظلمة حينها، فيما لوحة نجيب تفر بسريالية عفوية من واقع سريالي قابض للروح.

لاعتبارات المشترك القوي الكتابة، دخلت و(شهاب) في علاقة حوارية حول الأدب، نتج عنها أن شاركني في إصدار صفحة ثقافية بصحيفة (الفجر الجديد)، التي اقترحتها على رئيس التحرير حينها (عبد الرحمن شلقم)، فكانت الصفحة (أفاق ثقافية- كتابات شابة) والتي نشر فيها (شهاب) قصصا عدة ومقالات.

ولقد كان شهاب أيضا يقوم بمراجعة وطباعة الكتابات والنصوص الأخرى، التي تنشر في الصفحة لفترة ليست بالقصيرة، لكنها أيضا لم تطل حيث بدأت نهاية سنة 1976م إلى نهاية 1977م، ومع نهاية العام التالي 1978م كنا معا رفاق السجن لعقد من الزمان. 

كتب في السجن عددا من النصوص لكن بعد السجن لم يكتب ولم ينشر، غادرته الكتابة وإذا كان العدو لا يغدر فإن الكتابة الصديق غادرة، حيث فقدت القصة القصيرة (عبد السلام شهاب). 

3-
بدء السبعينيات قضينا الصيف معا بين المسرح والبحر ومساء نشاهد الأفلام، خيط الفن الرفيع، العروة الوثقى ما إن ذهبت الأيام يشدنا... لذا ذا الخيط يشدنا إليه رغم أن البلاد اللوحة السريالية بعثرتنا. وقماشة الذاكرة من نسيج لوحات نجيب وسرديات شهاب أكثر متانة وقوة وعنفوان، في الذاكرة النبع الأول كلما تنأى عنه يجذبك إليه.