Atwasat

سكرتير الملك

سالم الكبتي الخميس 06 يونيو 2019, 02:07 مساء
سالم الكبتي

النخل والعراجين وقفت شامخة ذلك اليوم من يناير 1931 . الكفرة والتاج . والتلال والرجال والمقاومة . ارتكب غراتسيانى وجنوده الفظائع السود الحمر واحتلوا الكفرة.
الشهداء عددهم لايحصى . اْبدوا بسالة منقطعة النظير . من بينهم جده لوالده صالح العابدية والكثير من الرجال ذلك اليوم.

قبل احتلال الواحة البعيدة بعشرة اْعوام ولد بها فتحى على العابدية . ثم هاجرت الاسرة وكان طفلا مع والدته وعمه واخوته عبر الصحراء والواحات الداخله للالتحاق بالوالد فى الأردن . كان قد استقر هناك بعد اْن نقض الطليان معاهداتهم مع الأمير إدريس.

كان الوالد على باشا العابدية اْحد رجال حكومة أجدابيا ومن مستشارى الامير ومرافقيه .عرف اْمور السياسة مبكرا وخاض بعض صفحاتها . مع المهدى السنوسى فى تشاد خلال حربه هناك ضد الفرنسيين. اوفده احمد الشريف الى الخديوى عباس. ثم الامير ادريس للشريف حسين . ولاحقا حين هاجر صارت له علاقة وصداقة قوية مع اْبن الشريف الْامير عبدالله بن الحسين . اختار له وللمهاجرين الليبيين منطقة المفرق . تشبه وطنه كثيرا . عين اْول عميد لها . وفى مرحلة تاليه وفاء له اطلقوا اسمه على اْهم شوارعها ومايزال .

درس الابن فتحى العابدية فى اربد شمال الاردن المرحلة الاولية ثم الثانوية وكان من معلميه الاْديب الْاردنى محمد اْديب العامرى . ثم درس فى القاهرة وتخرج فى قسم التاريخ من ادابها عام 1949 وكان من ضمن اساتذته بالقسم د. محمد فؤاد شكرى المؤرخ المعروف والسورى الاْصل والذى كتب فى الشؤون الليبية لاحقا . واْسهم فى مخاضات الاستقلال الليبى وظل مستشارا تلك الايام للسيد بشير السعداوى .

فى عام 1950 عاد والاسرة من شرق الاردن. عينه الملك ادريس سكرتيرا خاصا له ووكيلا لديوانه حتى عام 1954 . هذه الاعوام ظل فيها قريبا من الملك وكل الاحداث وعاصر بناء الاستقلال واعلان الدولة وشهد الكثير من الوقائع والاحداث فى ظروف لم تكن سهلة . تلك الْاعوام الاْربعة حملت فى جوفها العديد من الامور والمعالم والارهاصات : الاستقلال . الاعتراف بالدولة الوليدة . الانتخابات الاولى . افتتاح اول برلمان . المعاهدات مع بريطانيا والاتفاقات مع امريكا . اْزمة المجلس التشريعى الطرابلسى . ثلاث حكومات . كان قد تولى ابلاغ اْحد رؤوسائها رسالة عاجلة من الملك بتقديم استقالته اْو الاقالة . اغتيال ابراهيم الشلحى .. وغيرها . اْحداث تحركت فوق الرمال وعصفت بالكثير من الوجوه وكانت سببا فى تغيرات مختلفة .كانت الدولة تعيش على المساعدات وتحتاجها من العالم . لم تستجد لكنها سعت بالوسائل والعلاقات اْن تسد المشاكل والثغرات الناجمه عن قلة اليد والحيلة .

فى بداية تلك الْاعوام كانت تجرى مناقشات الجمعية الوطنية التى وضعت حجر الاْساس للبناء واْصدرت الدستور . وبحكم مهامه سكرتيرا للملك كان شاهداعلى الاجتماعات الخاصة والثنائية التى عقدها الملك مع لجنتها الرئيسية فى قصر الغديرفى بنغازى .كانت اللجنة تضم : محمد اْبوالاسعاد العالم وعمر شنيب واْبوبكر اْحمد . كانوا يعرضون عليه مواد الدستور فى مسودتها الاولى التى تناقشها الجمعية فى جلساتها مادة مادة وفصلا فصلا .

وكثيرا ماشاهد الملك فى تلك الاجتماعات يشطب باْلاحمر على العبارات التى تعطيه صلاحيات كثيرة وعلى اْن تكون ليبيا ملكية وراثية واقترح اْن يكون النظام جمهوريا . واْكد على ذلك فى مراحل لاحقة عقب وفاة شقيقه الامير محمد الرضا. اْقترح اْيضا اْنه فى حالة وفاة الملك يتم اختيار مجلس للسيادة لمدة سنتين يضم ثلاثة او خمسة شخصيات تحفظ اْسماؤها بطريقة سرية مختومة بالشمع الاحمر فى خزانة الديوان او خزانة البرلمان او الحكومة . لعل الملك حدس مبكرا باْن التغيير قادم وظل زهده فى الحكم يلوح على الدوام .

واْقترب السكرتير المخلص الذى تمتع بالهدوء والدبلوماسية تلك الاعوام من كثير من الزعامات والوجوه الوطنية من مختلف اْنحاء ليبيا وعرف طموحاتها ومساعيها وعلاقاتها . ووقف على اصرار الملك تلك الايام واْستعداده للانسحاب من مسؤولياته التى اسندت اليه ببيعة الجمعية له فى محاولة للحد من تطور الخلافات بين اْبناء الوطن التى ظلت تطل ذلك الوقت حول نظام الحكم القادم فى الدولة الوليدة : هل يكون اتحاديا اْم غيره ؟. لم يناور الملك فى ذلك وكان صادقا فى راْي السكرتير حتى لايكون سببا فى حدوث اْية مشاكل بين اولئك الابناء ذوى الاتجاهات المتباينه والمتصارعه بوضوح اْو من وراء حجاب . كان الملك الفاهم لاْصول اللعبة يدرك اْن الناس لها مطلق الحرية فى اْختيار اْو مبايعة من تريد لتولى شؤون البلاد . كان يدرك اْيضا باْن التغيير قادم واْن طال الوقت وتلك سنة الله مادامت الدنيا .

فى مرحلة التاْسيس لدولة الاستقلال شاهد السكرتير ووقف اْيضا على تقلبات بعض الزعماء وتغيير الادواروالاهتمام بالمصالح والارتكان الى العلاقات المجاورة . كان شاهدا صامتا على الكثير . وكان يدون الكثير من الاْسرار والاْحداث مباشرة وبقيت طى التاريخ . لم يفصح عنها استحياء واحتراما لاْصحابها مهما كانت الاحوال . وفى تفاصيل اْخرى كان ياْسف لعدم النظر لبعض القيادات الوطنية المحترمة والصادقة غداة الاستقلال نظرة صائبة .

كان من المفترض اشراكها فى المناصب واقحامها فى المسؤولية . وحصلت هنا الشكوك والالتباسات . فى الوقت الذى طغى فيه قبل الاستقلال الحماس على الاْداء والعمل السياسى دون غيره للكثيرين الى درجة التهور . وهذا الحماس والعاطفة التى لاتجدى نفعا فى السياسة اْغفلهما عن تاْسيس اْو وضع لبنات لتنظيمات وطنية وشعبية تكون بمثابة عامل مساعد ومؤثر لْاجهزة الدولة والتبصير بالْاخطاء فى ظل الدستور . ولهذا فاْن كل الاحزاب التى تشكلت تلك الفترة كانت بعيدة عن روح التنظيم اْو الاسس الحزبية الصحيحه لنقص الوعى وقلة الخبرة والتجربة وندرة المتعلمين .

والملك فى كل الظروف ظل يثق فى رجاله ورجال الدولة بصورة عامة ويمنحهم الفرصة لْاداء العمل دون تدخل منه وعندما تهتز ثقته فى اْية شخصية مهما كانت فلا يمكن اْن تعود ثقته نحوها الى حالتها الطبيعية . وفى الاجمال كان السكرتير الخاص يؤكد ان الملك نزيه فى شخصه وفى ذمته خاصة مايتعلق بالسلوكيات والامور المالية والفساد . ورغم الاْخطاء والمشاكل والعراقيل والعواصف اْحيانا حاول الملك ان يبنى دولة عصرية وربما الكثير من عقليات الدولة ورجالها لم تستطع مجاراة الملك فى عقليته ونظرتها البعيدة . وظل جادا باْستمرار فى تقديم استقالاته للشعب والسعى للتغيير فى نظام الحكم اْكثر من مرة .

الاْعوام الاْربعة فى العمل قريبا من الملك اْفادته فيما بعد فى تجربة العمل الدبلوماسى مستشارا فى السفارة الليبية فى واشنطن ثم فى لندن ثم وزيرا مفوضا فى جدة فوكيلا لوزارة الخارجية . الدبلوماسى الاْمين الصامت الشاهد على اْحداث واْمور كانت تتدفق فى الانابيب بلا توقف ولم تشاْ له الظروف المعاكسة التى اعترت ظهر الوطن ان يفصح عنها للاجيال التى انقطعت عن تلك المراحل ولم تعرف عن تفاصيلها شيئا وظلت تحكم عليها بالعاطفة والحماس اْيضا دون حيادية اْو انصاف .

فى مطلع عام 1964 عين سفيرا فى الولايات المتحدة. عاصر جونسون ونيكسون والكثير من رجال الادارة الامريكية وظل الى سبتمبر 1969 . هنا اْدرك ان الوقت تغير وسنة الله فى عباده قد جرت . كان ثمة علاقة لها جذور تاريخية قديمة بين عائلته والحركة السنوسية . بين والده والملك . عندما دخل عليه فى مكتبه مجموعة من المبعوثين الليبيين للدراسة فى امريكا مع غيرهم من المقيمين هناك واْرادوا انزال صورة الملك الموجودة فى مكتبه اْصر اْن لا يتم ذلك فى حضوره واشترط اْن تنزل باحترام وتقدير ودافع عن نضال الملك وسيرته وعهده ونظافته . ولم يرسل باْى تاْييد اْو مبايعة . قبل ذلك باْيام كان قد اْجتمع باْخر سفراء امريكا فى العهد الملك ديفيد نيوسوم الذى عاد بعد انتهاء مهمته فى ليبيا واْكد له ذلك السفير باْن الامور سيئة فى ليبيا وتنذر بحدوث شى ما !!

مرحلة الدولة. بناء الاستقلال. الحلم بوطن عزيز. الدبلوماسية ورجال الخارجية الليبية فى سنوات الاستقرار والهدوء. مدرسة السياسة الليبية الواقعية. الاْمانة والكتمان. سمات ظل يتصف بها الرجل السكرتير والسفير المخلص دون ظهور. عمل فتحى العابدية من اْجل وطنه بكل تواضع لكن مع كثير من الكبرياء اْيضا.