Atwasat

حقول الحرية

جمعة بوكليب الأحد 02 يونيو 2019, 01:04 مساء
جمعة بوكليب

جزى الله عنّا الملعب البلدي كل خير. من كان يصدق أن يتعرض ذلك الملعب للهجران، ويدخل دوامة النسيان في مدينة بدا كل شيء في ذاكرتها متاحا لمحو متعمد، يكاد يطال هوّيتها، وتاريخها وتراثها؟

أتذكر، ذات يوم، أنني كنت أنوي زيارة صديق يقيم بإحدى العمارات المجاورة للملعب البلدي، ولم يكن لديَّ من الوقت ما يكفي لكي أقطع المسافة مشياً من محل سكناي بالظهرة، كما تعودت. فأوقفت سيارة أجرة، وطلبت من السائق توصيلي إلى الملعب البلدي، فلم يعرفه!
استنكرت جهله، وحاولت أن أصف له المكان، وكيفية الوصول إليه. كان السائق شابا في العشرينات من عمره على ما أذكر، وأن تكون سائق سيارة أجرة، في مدينة طرابلس، ولا تعرف مَعْلما تاريخيا من معالمها، فتلك مصيبة. وإن كنت من سكان طرابلس فالمصيبة أعظم.

تلك االمساحة من طرابلس، كانت، يوماً ما، ملتقى شباب طرابلس، وعشاق كرة القدم، وسباق الدراجات، وألعاب القوى. كانت المباريات تقام، على أرض ملعبه، أيام الجمع والآحاد، طوال موسم الكرة، وهو من بداية الخريف إلى بداية شهر الصيف. هناك، في تلك المساحة الخضراء المسيّجة والواقعة بين "تريبونة الشمس" و"تريبونة "الظل"، عاشت الكرة الليبية أيام عزّها، وعشنا نحن، شباب ذلك الوقت، فترة متميزة من تاريخ مدينة كانت، قبل أن يلعب بها الزمن، يانعة الصبا، مفتوحة على كل الآفاق، وترى العالم بعينين تشعان طمأنينة، وطموحاً، وبقلب متسع لكل الأديان والألوان والألحان، والجنسيات.

في الملعب البلدي، الذي تحوّل إلى ركام، تألق وأبدع فنانو الكرة الليبية، وسجلوا، بمداد من عرق وفن وحب، تاريخاً لبلد لم يكن مطلقاً، ولازال، على علاقة ودية بالتاريخ، ودائم الجحود والنكران لكل أولئك الذين عشقوه، وأفنوا حياتهم في سبيل أن يكون وطناً يليق بأولادنا وأحفادنا، وتاريخ أجدادنا.

يبدو أن "وجيج" الذكريات، والحسرة على ما أضعنا من فرص، والأسف والحزن على ما وصلنا إليه من تدنٍ، قد أخذ بزمامي، وساقني، دون قصد مني، إلى أيام الملعب البلدي الذهبية، وما تعنيه لي شخصياً، وما تعنيه كذلك لأجيال أخرى، خاصة قبل وصول العسكر إلى سدة الحكم في ليبيا عام 1969، واستحواذهم على مستقبل بلادنا، وما أحدثوه من دمار وخراب في النفوس، مازلنا نعاني آثاره إلى يومنا هذا.

الملعب البلدي كان قلعة ذكورية، لا مكان فيه لأنثى. وأعتقد أن ذلك ينطبق حتى على المدينة الرياضية فيما بعد. كان الآباء يحرصون على إحضار أبنائهم لمشاهدة أحمد الاحول، والبسكي، والسنوسي، والخمسي، وبزيو، وحبيب الله، ولوتشي...إلخ، وبالتأكيد لم يخطر على بال أي واحد منهم إحضار بنته أو بناته معه. المرّة الأولى، التي رأيت فيها امرأة في الملعب البلدي، كانت مفاجأة لي، لأنها كانت أنثى وحيدة، في بحر ذكوري. كانت تلك السيدة زوجة لمدرب مجري، نسيت اسمه، كان يدرب فريق الأهلي الطرابلسي. وكان حريصا على إحضارها معه إلى الملعب لمشاهدة مباريات الأهلي، بدلا من تركها في البيت، تعاني الملل والوحدة.

الآن، في عام 2019، أصبح في ليبيا فريق كرة قدم نسائي يشارك في بطولات دولية. يبدو أن المسافة التي قطعتها المرأة الليبية في مسيرتها نحو حياة أفضل صار من الصعوبة بمكان تصديقها. من كان يصدق أن يكون لليبيا فريق كرة قدم نسائي؟ أنا، شخصياً، لم أكن لأصدق ذلك، خاصة في هذه الأوقات الصعبة جداً، المناوئة للمرأة، ولا ترى لها مكاناً تحت الشمس، وتستريب في كل من يتحدث عن حريات شخصية، وحقوق إنسانية.

قرأت، مؤخراً، تقريرا نشرته صحيفة الجارديان البريطانية في موقعها، يوم الخميس 30 مايو الجاري، أعده ناقد سينمائي اسمه فِل هود –Phil Hoad يحتفي فيه مشيداً بشريط سينمائي من تأليف واخراج سيدة ليبية اسمها نادية عريبي، اسمه "حقول الحرية" ويتنبأ لها بمستقبل واعد في مجال الإخراج السينمائي..

الناقد حقيقة لمسته ريح مختلفة، لواقع حياتي يمر بمرحلة عسرة، ربما لذلك السبب حاول أن يذكّر شركات الإنتاج السينمائي في هوليود إلى تحويل أنظارهم عن محاولة إعادة إنتاج أشرطة ناجحة وتحوير القصة بأن تكون الشخصيات كلها نسائية بديلا للمثلين الرجال إلى عالم آخر، وواقع آخر. الناقد يحتفي بمخرجة الشريط، وبقصة الشريط، والشخصيات الواقعية، التي وثقت المخرجة شهاداتها، وحرصت، أيضاً،على تقديم الواقع الليبي بعد الانتفاضة، وما يتعرض له من تغيرات وتقلبات، وما يتعرض له المجتمع المدني من تهديدات بالخنق.

الشريط توثيق لأحداث تتعلق بالفريق الليبي النسائي لكرة القدم، وتحديداً من خلال ثلاث شخصيات – لاعبات في الفريق هن فدوى، وحليمة حارسة المرمي، ونعمة اللاجئة التاورغية في طرابلس. الفريق يقوم بتدريباته في السرّ تفادياً لما قد يتعرض له من أهوال على يد حراس موكل إليهم حماية الفضيلة. كما يتطرق للإحباط الذي يصيب اللاعبات بعد قرار اتحاد كرة القدم الليبي قراراً يقضي بعدم مشاركة الفريق في بطولة تقام في لبنان. القرار، طبعا، من باب الخوف على اللاعبات، وحرصا عليهن، وليس من باب سيطرة الذكورة المزمنة، كما قد يعتقد البعض!!

الشريط المذكور سيعرض قريباً في دور العرض السينمائية ببريطانيا، ونأمل أن يكون فرصة مناسبة تتيح للمواطن البريطاني العادي الإطلال على الواقع الليبي، ومشاكل بناته، وأولاده، ومستقبلهم المبهم.

تحية وتقدير للاعبات الفريق النسائي الليبي لكرة القدم، على مثابرتهن وعزمهن، وتحية للفنانة الكاتبة والمخرجة نادية عريبي، وتقدير خاص إلى كل أولئك – رجالا ونساء – ممن يعملون في صمت لوضع اسم بلادنا في مكان مرئي ومسموع لغيرنا على خريطة شعوب العالم.