Atwasat

المسافة بين مرثية ابن الرومي ومرثية الكوني

فلاني عبدالرحمن الزوي الإثنين 27 مايو 2019, 04:32 مساء
فلاني عبدالرحمن الزوي

الرثاء أصدق إحساس يعبر عنه الراثي عن فقيده، سواءً كان شعراً أو نثراً على فراش القدر الهجرة الأبدية، النثر أروع وأرحب فضاءً وأقل قيود من الشعر، الرثاء يكون تزلفاً ونفاقاً عندما يكون في حق أبناء الملوك والسلاطين. تكون فيه الكلمات ابتدالا والمشاعر مطلية بالسواد والحُرقة حِرفة ومهنة للارتزاق غير مشروعة.

عاش ابن الرومي في ذلك الزمن، مات ابنه محمد نازفاً، ابيضت عيناه حزناً بمقدار الصُفرة الفاقعة التي أحالت حمرة الورود إلى شحوب في وجنتي فقيده وهي تذبل أمامه كالشهاب المدوي من كبد السماء، تساقطت نفس محمد قطعاً قطعاً وهي تنزف من كبد أبيه، وصار ذلك الجسد الغض المليء بالحيوية رخواً ليناً يترامى على الأكف يسيل على فم القَدر كالحمم المتبقي على فوهة الموت. ابن الرومي بالرغم من عالمه الذي كان يعيش فيه وبيئته التي سكنها والأرض التي مشى عليها، إلا أنه ورغم فداحة الخطب وجلل المصاب لم يستطع أن ينقل صورة لوصف تلك الفاجعة أكبر أفقاً أو خيالاً من أن فتى غض العود ينزف حتى الموت بين ذراعي والده رغم كل ذلك الكم الذي حوله والخيال الملهم الذي يحيط به.


الكوني، ابن الصحراء الذي قرأ كلماتها أحرفاً كما هي تعاريج رمالها ولون تربتها، ذلك الرجل الذي وضع عمامته القاتمة اللون بالزرقة حيناً وأخرى بالسواد، بتعاريجها التي تحاكي عروق الرمال، تكومت حول رأس لم يستطع أن يسجنه الخيال داخله، فكان أوسع من الخيال وخلف أفقه، وقف فوق كثيب متمرد، لا ترى من وجهه إلا شق أفقي منحنٍ كأنه الهلال في اليوم الثاني من عمره استعاره مما أملت الصحراء كرماً وعطاءً وكنوزا لا تفنى ولكن دون إسراف، الرياح تعيد ترتيب حبات الرمال في ذات اللحظة، وهو يحدث نفسه ويرسم الطريق والممرات، وكأنها أسماء وأرقام على خارطة مدينة لها ضوضاء وميادين وساحات،. نظر عن يمينه، عن شماله، أطلق بصره الذي لا يرد مداه حتى ذلك الخط الفاصل بين صفرة الرمال وزرقة السماء، لم يلتفت خلفه قط، فهو ليس في شك أو تردد من أين أتى ولا إلى حيث يريد، السير في الصحراء والوقوف عند محطاتها ودروبها ومعاطن الماء فيها، لايختلف عن السير وسط مدينة عصرية اليوم، العناوين والأرقام حفرتها الرياح التضاريس الطبيعة على خشوم الجبال وخدود الصخرة التي نسيها الدهر هناك إلى أن يجد نفسه وكأنه حبة عرق تتدحرج وقد اعتلى جبين الكثيب.

الفراش الذي لزمه (أوفنايت)، ضخم وواسع ليس بالإمكان بناء جدران حوله، ومن هو مسجى فوق الفراش أطول من آدم جسداً وعمراً.

في مجتمع استطاع أن يملأ الصحراء طولاً وعرضاً، فقد المرء أخيه يترك فيها بوعاً شاسعاً، كم عظيم من الدروب والكثبان وأودية سحيقة سوف تبكيه بلا نحيب الا عويل الرياح، فمن يسده ومن يعوضه، والحواس لا تُغني عن بعضها البعض كما قال ابن الرومي، غادر أوفنايت وقد ترك ربع الصحراء بلا طارق على بابها ولا مؤنس لها في وحشتها ووحدتها. ابن الرومي انحسر خياله في الحواس التي يعدها على أصابع يده الواحدة، وأبعد مسافة شطح بها خياله عندما لامست يده عينه وأذنه فكانت تلك هي أبعد نقطة في خياله، الكوني نقل حواسه إلى الشمس والقمر ونجم تسمَّر في عنق السماء كلؤلؤة لها وميض في عنق فتاة من الطوارق.

رحم الله أوفنايت ولك مني صادق العزاء وآحرّه أيها النجم الثاقب في زرقة السماء وعلى سفح الكثيب الذهبي الهائج كل يوم ثائراً على السكون، هاتفاً بالحب والحب هو الدائم ما دام الله في الوجود.