Atwasat

ثابت ومتغيرون

جمعة بوكليب الأحد 26 مايو 2019, 12:58 مساء
جمعة بوكليب

قط ٌمن ذوات الأربع، مدلل، غير مبال ولا مكترث سياسياً، ومَعَلمْ ثابت، ومُقيم دائم، تحت كل الظروف. يتمتع بمزايا كثيرة غير منصوص عليها في القانون، ومحبوب سواء من ساكني المقر، أو العاملين به، أو من ضيوفه. يحظى بمعاملة خاصة من الصحفيين والمصورين، ووسائل الإعلام، بغض النظر عمن يشغل مقر رئاسة الحكومة البريطانية. ويحمل لقب قط داوننج ستريت.

وقط أو قطة، على قدمين اثنين، متعودتين على السير في حقول مزروعة ألغاما، وطرق مليئة بمطبات، وفخاخ، وبهُوّية حزبية، معروفة. إقامته/ إقامتها لاتكتسب ديمومة. يتمتع بمزايا حددها القانون. وقد يكون محبوباً، أو مبغوضاً من العاملين بالمقر، أو من ضيوفه، وتتصف علاقة الصحفيين والمصورين ووسائل الإعلام به – بها،عموماً، بالتوتر وعدم الثقة، ويحمل لقب رئيس وزراء حكومة صاحبة الجلالة.

المتابعون للأحداث السياسية، يهمهم جداً أن يكونوا على معرفة بالقط، واسمه، وآخر ما سُجل في سجله اليومي من نشاطات، أو ما تعرض له من مضايقات، سواء من البشر، أو من الجرذان والفئران. ويهمهم ،أيضاً، أن يكونوا على معرفة بالقط – القطة البشري المقيم في المقر،على أمل أن يحظوا باهتمامه، أو بما قد يسبغه عليهم من اميتازات، ودعوات، وألقاب تشريفية.

كما يهمهم، كذلك، أن يكونوا على دراية بنوعية العروض، التي تعرض على الخشبة، في رقم 10 داوننج ستريت – لندن، من يوم ليوم. واهتمامهم نابع من حرصهم على ألا يفوتهم الاستمتاع بما يجري من عروض مسرحية متنوعة، سواء أكانت مأساوية، أو هزلية، أو خليطا من النوعين. وسائل الإعلام، بالذات، تدأب على وضع كاميرات دائمة أمام المقر، حتى في الفترات التي يكون فيها الممثلون في حالة راحة، أو إجازة، أو انتكاسة صحية، من باب الحرص على إفادة جمهور كبير، موزع في أنحاء البلاد، وخارجها، ممن يحرصون على معرفة، ومتابعة ما يستجد من تطورات في برنامج العروض اليومية، من باب الفضول.

القط المقيم، حالياً، حاملاً، منذ سنوات، لقب قط داوننج ستريت، اسمه "لاري" ليس صغيراً في الحجم، وعمره الزمني يقترب به من مقر دار التقاعد الخاصة بالحيوانات المعروفة، في منطقة "بترسي"، بغرب لندن.

كنتُ، ذلك الصباح، جالساً على كنبة، في حجرة المعيشة، ببيتي، أتابع على القناة الأولى"بي بي سي"، حواراً بين مذيع في الاستوديو ومراسل، أمام 10 داوننج ستريت، حول آخر المستجدات المتعلقة باحتمال استقالة رئيسة الوزراء، بعد فشلها في تمرير مشروع قانون "البريكست" بمجلس النواب، حين لمحت، في جانب من الشاشة، صورة "لاري"، جالساً، على أرضية العتبة، أمام لمعان باب بيته، كسيدٍ عَنّ له الخروج صباحاً، والاسترواح قليلاً، قبل أن يبدأ دوام نهاره. كعادته، جلس، لامبالياً، بما يجري، ويدور أمامه، بوجه نضر أبيض صبوح، وصدر منتفخ كبرياء ونبلاً، وبياضاً. بقع رمادية اللون، تغطي بعض مساحات شعره. الطمأنينة التي تشع من نظرات عينيه تحسده عليها، وتتمناهما عينا القطة الآدمية، المسماة تيريزا، المقيمة معه في المقر، منذ ما يقرب من ثلاث سنوات صعاب.

المسرحية التي تعرض، هذه الأيام، مأساوية، تقطّع ما تبقي في قلب المرء من نياط. بطلتها قطة آدمية، عنيدة، بأنياب وأظافر حادة، وبحنكة ودهاء سياسي، قاداها، عبر سنوات من السير المرهق، داخل أروقة وسراديب وممرات حزب من أعتى أحزاب العالم الغربي، بتاريخ طويل، وسجل أطول في استخدام وتطويع لعبة "العباءة والخنجر"، حتى تمكنت من اعتلاء ذروته، وتربعت على كرسي 10 داوننج ستريت، في شهر يونيه 2016، بابتسامة ظافرة، على شفتين رقيقتين، تكشفان عن أسنان لؤلؤية، كأنياب، وبنظرات في عينين، كخنجرين، مدربتين على سبر غور الإنس والجن.

المسرحية قاربت على الانتهاء، والمتابعون، والإعلاميون، والجمهور العريض يكادون يكونون جميعاً على علم بالخاتمة. لكن ما يشدّ اهتماههم، ويستثير فضولهم، ليست الخاتمة المتوقعة، بل كيف يمكن للقطة – البطلة، المسماة تيريزا، مواجهة مصيرها المؤلم. هل سترفع راية الاستسلام البيضاء وتغادر المسرح، بعينين مغرورقتين دموعاً، كسيرة القلب، مهيضة الجناح، كما حدث لقطة أخرى، منذ سنوات، اسمها مرجريت، أم أنها سترفع راية القتال الحمراء حتى تقضي على أعدائها، أو تُقتل وتحظى بشرف الفرسان؟

المشكلة أن السياسيين، على اختلاف توجهاتهم، يمتلكون ذاكرات مثقوبة، ولولا ذلك لاستوعبوا دروس التاريخ، ولتذكروا ما حدث للسيد "إينوك باول" ، أحد الدهاة والعتاة المحافظين ممن عرفتهم السياسة البريطانية، ومن أكثر الشخصيات إثارة للجدل والخلاف، في فترة السبعينيات من القرن الماضي، والذي قال، ذات مرّة، غير مخطيء: "من المحزن، أن دورة حياة السياسيين، دائماً تنتهي بالفشل."
"لاري" يعرف ذلك!