Atwasat

السياسة على محك البيّنيـة

نورالدين خليفة النمر الأحد 26 مايو 2019, 12:56 مساء
نورالدين خليفة النمر

تجاوزت منذ سنة جل تحليلات السياسة مصير الخروج البريطاني"بريكسيت" ،وتمحورت على الأداء السياسي لرئيسة الحكومة تيريزا ماي ليس إزاء معارضيها من حزب العمال، بل الأنكي إزاء غرمائها الممثلين لحزب المحافظين المُترشحة عنه. السؤال ما الذي يحصل عليه حزب المحافظين في مقابل التخلص من زعيم آخر في الاتحاد الأوروبي؟ ربما ممارسة الشك التأملي، بمعناه المنهجي الذي صاغه الفيلسوف ديكارت الذي يستلزم "تأجيل الحكم" والقيام بـ "مسح الطاولة" وتطهير المرآب. وديكارت قارن هذه الحاجة بحاجة الإنسان الذي يريد "تجديد بناء المسكن الذي يقيم فيه (...) أن يكون له مسكن آخر يستطيع أن يأوي إليه في راحة خلال الزمن الذي يعمل فيه على تجديد المسكن الأول". وفي المقابل تنعقد آمال راسمي سياسات حزب المحافظين بأن يتمكن خليفتها من صياغة سياسات جديدة فيما يتعلق بـ "بريكسيت"، أو على الأقل توحيد الفصائل المتناحرة حول النسخة المبهمة منه التي تم رفضها من قبل.

نجلب مثالاً من مجال منهجيات العلم، لنفهم به السبب في أعطاب السياسة. حيث ساق تصاعد متزامن في استهلاك الطاقة علماء بيانات بريطانيين إلى أن يُرجعوا الإنهاك، الذي أصاب أجزاءً من الشبكة المحلية وقدرتها الإنتاجية لبضع دقائق إلى سبب أن أسوأ حالات هذا التصاعد حدثت جراء لعبة كرة القدم بتصفيات البطولة السنوية، التي يتسمر خلالها الجميع أمام أجهزة التليفزيون. وفي فترة الاستراحة بين الشوطين، ينهض المشاهدون من فوق أرائكهم، في آن واحد تقريبًا، ويضعون غلاية الماء على النار لإعداد كوب من الشاي.

نلجأ إلى معيار البينية betweeness الرياضي لمقاربة الاستقراء السالف، بإخضاعنا التمثيلية البريطانية، التي نشهد أنها تتعرض اليوم لمأزق حقيقي في مرحلة الإعداد الذي تمطط لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبى، فيعصف بها ضربٌ من التحدي يكشف ما أصابها من تغيير بل تحول وانشطار فى الرؤية . فما يظهر مفارقةً: أن يقول الشعب كلمته فى موضوع الخروج "البريكسيت" من الاتحاد الأوروبى ثم تفشل الحكومة والبرلمان فى تنفيذ إرادة الشعب نفسه الذي انتخبهما .

وكما بيّن التاريخ، غالباً ما يحدث فى الظروف العادية والتطورات البطيئة أن تتلاقى فى سلام وهدوء أمزجة ومصالح القوى المتململة فى المجتمعات مع أمزجة ومصالح أنصار التغيير من القائمين على إدارة المؤسسات وصياغة المفاهيم السياسية، فيقع التغيير بسلاسة ورضى الطرفين. ولكن فى أحيان كثيرة سجل التاريخ فجوات واسعة فى فرص التقائهما ترجمت نفسها في مراحل قلق وتوترات اجتماعية انتهت غالبا بتغير جوهري في أسس العلاقة بينهما.

نمدّد استقراء البينية betweeness من مجاله العلمي إلى تخوم الطبيعة البشرية التي تُعبرّ عنها السياسة. ولهذا الغرض كيّفنا مفهوم الحشد المجتمعي في الطبقة الصدئة التي أنتجت تجمعات سياسية كحزب الشاي في أمريكا، وحزب الـ"بريكست" باسم نايجل فاراج، و رشح عنها ساسة شعبويين، كـ : دونالد ترُمب الذي للغرابة مثل مجبراً كما هو مُكره الحزب الجمهوري وهو يعاديه بل يريد وأده. وفي بريطانيا يحتشد ساسة شعبويون كـ: بوريس جونسون, الذي سيترشح ممثلاً عن الشريحة المؤيدة لـ "بريكسيت" في حزب المحافظين، التي يتجاوب معها الرئيس الأمريكي الذي يُزمع زيارة بريطانيا في يونيو 2019. والتي ستكون مناسبة ـ حسب المحللّة السياسية تيريز رافائيل ـ لتوجيه انتقادات لرئيسة الحكومة البريطانية ماي أبرزها لقرار بريطانيا بمواصلة الاستثمار مع شركة "هواوي" الصينية، و منتهزاً الفرصة للإشادة بجونسون، المنافس لها على القيادة القادمة للحزب.

لغرض تفسير الموقف يُستعان بمعيار البينية الآنف في تضييق فجوات المعرفة، فكما توّضح لنا حتى في الظواهر المجتمعية التي تبدو مسيجة بأخلاقيات المواقف Situation ethics أن التفاعلات بين كيانات تتسم في ذاتها بالتعقيد تؤدي بالتأكيد إلى تصعيب إدراك شديد للغاية، لكن لحسن الحظ، بقدر ما يتسم الأفراد عادةً بالتقلب والإرباك وعدم القدرة على توقُّع تصرفاتهم، إلا أنهم عندما يجتمعون في حشد مثل مشجعي مباريات الكُرة في الاستقرأ الآنف. فإنه يمكننا في كثير من الأحيان فهم المبادئ التنظيمية الأساسية لهم مع تجاهل الكثير من التفاصيل المعقدة. هذا هو الجانب الآخر للأنظمة المعقدة؛ ففي حين أن معرفة القواعد الحاكمة لسلوك الأفراد لا تساعد بالضرورة في التنبؤ بسلوك حشد منهم، فقد يمكننا التنبؤ بسلوك هذا الحشد نفسه دون معرفة الكثير عن الخصائص والشخصيات المنفردة.

فسلوك ماي السياسي كرئيسة حكومة مثلت حشدها المجتمعي والحزبي بمهمة تسهيل لـ "بريكسيت" خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، المتابع له يراه تحديا لقوى الجذب السياسي، بسّد الفجوات التي افتعلها المنافسون الحزبيون بتجاوز معضلة الانتخابات، والتصويت على سحب الثقة البرلمانية فيها بتدبير من الأعضاء المحافظين من حزبها، ومحاولة لتغيير قواعد الحزب الراسخة، بهدف إجبارها على الرحيل في وقت مبكر، وإحداث انشقاقات في وزارتها بسلسلة من الاستقالات، والتمرد المفتوح من جانب أعضاء مجلس الوزراء، آخرهم الوزيرة البريطانية لشؤون البرلمان أندريا ليدسوم، 22 .7. 09، مبرّرة استقالتها من منصبها احتجاجاً على طريقة إدارة رئيسة الحكومة تيريزا ماي لملفّ خروج المملكة من الاتّحاد الأوروبي.

ديكارت، الرياضي الذي ـ حسب "ماغازين ليتيرير" ـ تخيل نفسه الفيلسوف، لم ينتبه إلى النقيصة التي اعترت شكه، مع فكرة كفاية الأنا نفسه بنفسه، بصفته جوهرا قائما بذاته في مسألة تطبيقه لقاعدة البداهة في الأخلاق، مثلما لم يعر بالا لتناقض الحاجة إلى الأخلاق المؤقتة Provisoire، ودواعيها، التي تنبثق عن عدم قابلية الأخلاق للتأجيل في الحياة العملية التي تهيمن عليها السياسة. فلا يتبقى لحزب المحافظين إلا أن يتحمل آلام الانتخابات البرلمانية الجديدة التي لم يردها لأعضائه أبداً، وأقسموا على تجاهلها، والتي سوف يقاسون خلالها آلام هزيمة حزب نايجل فاراج المؤيد لـ "بريكسيت“ وفشله المتكرر في دخول البرلمان.