Atwasat

صلابة القشرة وهشاشة اللب

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 26 مايو 2019, 12:54 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

سالم العوكلي شاعر مبدع، ومثقف مهم، يكتب مقالات تتميز بالثراء الثقافي والعمق الفكري. لكن يمكن أن تشوبها المغالطات، سهوا أو عمدا.

في مقاله الأخير "دودة اسمها الوطن"* بموقع قناة 218، يثير موضوعا يدعو إلى النقاش. وقبل الدخول في نقاش ما نراه نقاطا محل نقاش في مقاله، نود توضيح المقصود بعنوان المقال.

شعبيا يعبر عن شغف إنسان ما بممارسة شيء، مثل صيد السمك بالسنارة أو لعب الورق مثلا، بحيث لا يستطيع التخلي عنه بأنه تسكنه دودة تدفعه إلى ذلك. أي أنه أصبح مدمنا لهذا الشيء. ومن هنا يريد سالم العوكلي القول بأنه أدمن الوطن، رغم ما يسببه هذا الإدمان من متاعب.

ونحن، بالطبع، لا اعتراض لنا على هذا الإدمان.
لكن النقاط التي لفتت انتباهنا مرتبطة بمسائل أخرى، تتعلق بالوطن طبعا.

يقول سالم العوكلي أنه تصله "بعض البيانات من بعض المثقفين والكتاب تطالب بوقف الحرب الدائرة على تخوم طرابلس، من أجل أن أوقع عليها" ولكنه لم (يتكبد حتى عناء قراءتها) "والسبب أن الحرب مستمرة منذ سنوات فوق رؤوسنا هنا، وقذائف المجموعات المدعومة من حكومات طرابلس ومصراتة كانت تنزل عشوائيا على البيوت وعلى ساحات التظاهرات التي تطالب بالجيش والشرطة وعلى القرى المتاخمة لدرنة، وضحاياها بالعشرات يوميا، ولم يتوقف الدعم لهذه الجماعات المتطرفة والإجرامية من قبل النافذين في العاصمة ومصراتة، ولم نفكر في توزيع بيان ضد تلك الحرب لأننا نعرف أنها كانت ضرورية من أجل بقائنا ومن أجل أن تنتزع الدولة من مخالب الإرهابيين، ومن جانب آخر لم يكتب أحد من هؤلاء الذين يريدون أن أوقع معهم سطرا على صفحته يدين الحرب التي كانت هنا فوق رؤوسنا أو يدين القتل المستمر من قبل هذه الجماعات لعدة سنين، وكأن تلك الحرب كانت قائمة في الصومال أو جزر الهونولولو".

طبعا من حق أي أحد التوقيع، أو عدم التوقيع، على أي بيان بخصوص أي موضوع. ولكن حين يتم تعليل (كي لا أقول تبرير) هذا الرفض في مقال ينشر على الملأ، يصبح من حق المختلفين معه مناقشته لأنه، في مثل الحالة التي نحن بصددها، يضعهم في دائرة الاتهام.

ينبغي التأكيد على أن سالم العوكلي طرح رأيه، بشأن هذه النقطة وغيرها من النقاط التي سنناقشها، بمنطق متماسك القشرة. إلا أنه هش اللب!. لذا ينبغي تجشم عناء إزالة هذه القشرة الصلبة للكشف عن اللب الهش.

وفي هذا الصدد أريد أن أشير إلى أنه صدر بيان من مجموعة من أوساط اجتماعية مختلفة، كنت من ضمن الموقعين عليه، يدين قرار رقم (7) الصادر من قبل المؤتمر الوطني العام سنة 2012 القاضي بالهجوم على بني وليد وأدانه بعبارات لا لبس فيها. في حرب ما سمي "فجر ليبيا" لا أذكر أنه صدر أي بيان يدعو إلى إيقاف الحرب. وأيضا في الحرب التي جرت في بنغازي ودرنة، وكما أكد سالم العوكلي، لم يصدر بيان بالخصوص بهذا المضمون. والآن صدر بيان يطالب بإيقاف الحرب، وهذا البيان يثير ريبة سالم العوكلي.

فماذا نستنتج من حالة إصدار، وعدم إصدار، بيانات تطالب بإيقاف الحرب في الحالات المذكورة؟.

رؤيتي الخاصة، أن إصدار بيان يدعو إلى ضرورة إيقاف حرب ما، يستدعي أن يكون أحد الطرفين المتحاربين، على الأقل، ممتلكا للشرعية أو قدر منها. وهو ما توفر في حالة الحرب على بني وليد حيث كان "الطرف الشرعي" معتديا. وبالتالي كان ينبغي التوجه إليه بإيقاف عدوانه. أما حرب ما سمي"فجر ليبيا" فكانت تجري بين ميليشيات لا تمتلك أي منها شرعية قدرا من الشرعية، وبالتالي كان من غير المنطقي ولا المجدي مطالبتها بإيقاف الحرب. في حالة إطلاق عملية "الكرامة" في بنغازي، التي أيدتها في مقال منشور واعتبرتها "خشبة الخلاص" كانت هناك جماعات إرهابية واضحة ومحددة وهي التي بادرت بالعدوان على الجيش واحتلال مقاره ومعسكراته وطرده منها، وحرب درنة كانت استكمالا لهذا. لذا كانت المطالبة بإيقاف الحرب تعني المطالبة بالخضوع للإرهاب.

بالنسبة إلى الحرب الدائرة الآن، تمتلك القيادتان الداخلتان فيها نوعا من الشرعية. فالجيش الذي يترأسه المشير خليفة حفتر، و "القوات المساندة" له، يمتلك شرعية برلمان مشلول، والجيش و "القوات المساندة" له الذي يقاتل باسم حكومة الوفاق الضعيفة يمتلك شرعية دولية، هي شرعية هيئة الأمم المتحدة. وإذن فمن الطبيعي مطالبتهما، اعتبارا لهذه الشرعية البائسة، بإيقاف الحرب.

أما بشأن دعم "الجماعات المتطرفة والإجرامية [في بنغازي ودرنة] من قبل النافذين في العاصمة ومصراتة" فما من شك، عندي، في أن الجماعات الدينية، التي أعتبرها جميعا متطرفة جوهريا بغض النظر عن ممارساتها المرحلية، متنافذة على بعضها ويدعم بعضها بعضا بأشكال مختلفة. ويحدث أحيانا أن تقفل بعض هذه المنافذ لسبب أو آخر. إلا أنه لا يمكن القول أن المليشيات الدينية الموجودة في طرابلس ومصراتة هي جماعات مناظرة لتلك الجماعات الإرهابية التي وجدت في بنغازي ودرنة وسرت. والدليل على ذلك أن سرت تم إخلاؤها من داعش من قبل قوات تابعة لحكومة الوفاق. وهذا ينبغي أن يعيد المسألة إلى البحث من جديد. الجماعات والمليشيات الدينية الموجودة الآن بطرابلس مناظرة للجماعات الوهابية التي تشكل عمود "القوات المساندة" الفقري التي تقاتل مع الجيش الذي يرأسه المشير خليفة حفتر.

ويشير سالم العوكلي، أيضا، إلى أن الخوف من عسكرة الدولة حجة "يروج لها الإسلام السياسي كي يحشد التيارات المدنية في معارضته للجيش كعدو تاريخي له" على حين أنه "لا دولة مدنية أو ديمقراطية يمكن أن تقوم دون جيش يحمي حدودها ومصادر رزقها". أما الانحراف الذي يمكن أن يحدث عن هذا الأساس فهو "من طبيعة المراحل الانتقالية التي يتكالب فيها الجميع على السلطة، عسكريين ومدنيين، لأن الخوف من حكم العسكر هو خوف من الدكتاتورية، وأعتى الدكتاتوريات أوجدها أيضا طغاة مدنيون". وبغض النظر عن أن هذا الكلام فيه استهانة بوعي "التيارات المدنية"، فإنه تواجهنا هنا مسألة أيهما أسبق: دولة مدنية ديموقراطية تنشيء جيشا يتبع قيادتها باعتباره مؤسسة من مؤسسات هذه الدولة، أم "جيش" ينشيء دولة ويعتبرها مؤسسة ملحقة به؟!. ولا يصح القول بأن الانحراف الحادث هو "من طبيعة المراحل الانتقالية"، لأن المراحل الانتقالية التي نعنيها، ويعنيها سالم العوكلي معنا، هي مراحل انتقالية ذات جدول واضح ومحدد، ومظاهر العافية فيها التي تؤشر باتجاه أفق إيجابي أكثر من مظاهر المرض. وصحيح أيضا أن "أعتى الدكتاتوريات أوجدها أيضا طغاة مدنيون". فسالازار دكتاتور البرتغال وموسوليني وهتلر وصدام حسين مدنيون، إلا أن الأنظمة الدكتاتورية الاستبدادية ارتبطت، تاريخيا وإحصائيا، بالعسكر.