Atwasat

المثقف ليس آلة صماء

سالم العوكلي الثلاثاء 21 مايو 2019, 02:06 مساء
سالم العوكلي

"لكن تُرى ما الذي يمثله المثقف أو المفكر اليوم؟" سؤال جوهري يطرحه الناقد والمفكر إدوار سعيد في كتابه Representations of the intellectual الذي ترجمه د. محمد عناني بعنوان "المثقف والسلطة. والــ "لكن" هذه تأتي بعد قراءته لرواية فلوبير "التعليم العاطفي" وقراءته خصوصا لخيبة أمل فلوبير في المثقفين أو المفكرين منتصف القرن التاسع عشر "تدور أحداث الرواية في باريس إبان فترة القلاقل التي شهدتها في الفترة من 1848 ـــ 1851، وهي الفترة التي أطلق عليها المؤرخ البريطاني الشهير لويس ناميار وصف ثورة المثقفين والمفكرين، فالرواية تقدم لنا صورة عامة منوعة الملامح للحياة البوهيمية والسياسية في (عاصمة القرن التاسع عشر). وفي مركز الرواية نجد اثنين من سكان الأقاليم في فرنسا هما فريدريك مورو، وشارل ديلورييه، ويصور فلوبير، في وصفه لمغامراتهما الشبابية، غضبه وحنقه من عجزهما عن السير في طريق المثقفين أو المفكرين المستقيم. ويرجع جانب كبير من احتقار فلوبير لهما إلى ما قد نرى فيه مبالغة من جانبه في توقع ما كان يمكنهما أن يفعلاه. وثمرة تصويره لهما هي أنصع وأبرع تمثيل للمثقف أو المفكر الذي ضل سبيله. فالشابان يبدآن حياتهما باعتبارهما قادرَين على أن يصبحا من فقهاء القانون، والنقاد، والمؤرخين، وكُتّاب المقالات، والفلاسفة وأصحاب النظريات الاجتماعية الذين يضعون رفاهية الشعب نُصْب أعينهم. ولكن مورو ينتهي "بتضاؤل طموحاته الفكرية، فلقد فاتت الأعوام وهو يعاني من البطالة الذهنية والقصور الذاتي في القلب. وأما ديلورييه فيصبح مديرا استعماريا في الجزائر، فهو يعمل أمين سر أحد الباشوات، ومديراً لإحدى الصحف، ووكيلاً لشركة إعلانات .... وهو يعمل حاليا مستشارا قانونياً لإحدى الشركات الصناعية.".

يرى إدوار سعيد أن فلوبير يرى عبر مصير هاتين الشخصيتين مظاهر إخفاق جيله من المثقفين أو المفكرين، وكأنه تنبأ بما أصبح عليه الحال نهاية القرن العشرين، بالنظر إلى الضريبة التي أصبحوا يدفعونها للمجتمعات الحديثة ذات الإيقاع السريع الذي يصرف الناس عن مقاصدهم ويؤدي إلى عدم تركيز إراداتهم. كما يشير سعيد إلى مرحلة ظهور الصحافة والإعلانات وسرعة تحقيق الشهرة "حيث من الممكن تسويق جميع الأفكار، وتغيير أشكال جميع القيم، واختزال جميع المهن في غرض واحد هو السعي لكسب المال وتحقيق النجاح بسرعة". وبالعودة إلى سؤاله الجوهري عما يمثله المثقف أو المفكر اليوم (يعني بعد هذه الضغوط أو المغريات أو وتيرة العصر السريعة الذي وجد المثقف نفسه في قلبها) يجد إحدى الإجابات، التي يعتبرها الأفضل والأصدق، عند عالم الاجتماع الأمريكي سي. رايت ميلز، الذي كتب العام 1944ما مفاده حسب سعيد "أن المفكرين أو المثقفين المستقلين قد يواجهون لونا من الإحساس المؤسف بالعجز، بسبب وضعهم الهامشي، وقد يواجهون خيار الانضمام إلى صفوف المؤسسات أو الشركات أو الحكومات باعتبارهم أفرادا في مجموعات ضئيلة العدد تعمل داخلها، تتخذ قرارات مهمة ومستقلة دونما إحساس بالمسؤولية.". أو كما يقول ميلز: "إذا لم يرتبط المفكر بقيمة الحقيقة في الكفاح السياسي، فلن يستطيع تلبية متطلبات الحياة الواقعية، بصفة عامة، بمستوى المسؤولية اللازم" ويعلق سعيد على هذا الاقتباس الذي يعتبره جديرا بالقراءة وإعادة القراءة بأنه لا مفر من السياسة التي هي حولنا في كل مكان "وليس بوسع أحد أن يفر إلى عالم الفن أو حتى إلى عالم الفكر أو حتى إلى عالم الموضوعية المُنَزَّهة عن الغرض أو النظريات المتعالية. فالمثقفون ينتمون إلى عصرهم وتسوقهم معاً السياسة الجماهيرية القائمة على الصور الفكرية التي يجسدها الإعلام أو صناعة أجهزة الإعلام، وهم لا يستطيعون مقاومة هذه الصور إلا بالطعن فيها، والتشكيك فيما يسمى بالروايات الرسمية."

فالإعلام سلطة هائلة موجهة للجماهير الخاضعة لأدوات تخديرها، وهي لا تستطيع أن تلتقط أنفاسها أمام دفق الصور الهائل وأمام هذا اللهاث الذي يصبغ إيقاع العصر، بمعنى آخر؛ تظل وظيفة المثقف أو المفكر، كما يقول ميلز، نزع الأقنعة ، وتقديم صور بديلة يحاول المثقف فيها أن يكون صادقا ما وسعه الصدق. من جانب آخر يشير إدوارد في هذه المحاضرات التي قدمها العام 1993 لبرنامج "محاضرات ريث" الذي تقدمه البي بي سي البريطانية، إلى ظاهرة تنبئ بسوء أكبر تتعلق بقوة الدول النفطية وثرائها ؛ والتي في حمى تركيز وسائل الإعلام الغربية على نظامي حكم البعث في سوريا والعراق ــ أغفلت "الضغوط الهادئة والخبيثة" التي تمارسها النظم الثرية بما تنفقه على الاستحواذ على مصادر المعرفة وتقديم "الرعاية المالية السخية للأكاديميين والكُتّاب والفنانين".

يذهب الكتاب في محاولة تحديد صور تمثيل المثقف من سؤال معقد إلى سؤال آخر أكثر تعقيدا، أو تخصيصا، والذي يعتبره السؤال الأساسي الذي يواجه المثقف : "كيف يقول المرء الحق؟ وأي حق تُراه؟ ولمن وفي أي مكان؟.

أولا: يعترف سعيد أن لا ثمة مذهب أو منهج واسع النطاق إلى الحد اللازم لتقديم إجابات مباشرة عن هذه الأسئلة، ولن يجد المثقف في عالمنا الواقعي في متناوله سوى أدوات علمانية يتبناها لتوصيل أفكاره، أما الوحي والإلهام، فهي وسائل أو طرائق لها جدواها لفهم ما يجري في الحياة الخاصة، لكنها قد تجلب الكوارث بل وتؤدي إلى أساليب همجية إذا استخدمها الفكر النظري، بل أنني كما يقول سعيد "قد أذهب إلى القول بأن على المفكر أن يشتبك في نزاع مدى حياته مع الأوصياء على الرؤية المقدسة أو النص المقدس، فضروب عدوانهم لا يحصيها العدُّ، وهراواتهم الغليظة لا تقبل أي خلاف ولا تسمح قطعاً بأي تنويع أو تعددية".

ثانيا: يتخذ من قضية "الموضوعية" نقطة انطلاقه التالية من أجل مراودة هذه الأسئلة، مستعينا بالمؤرخ الأمريكي بيتر نوفيك الذي أصدر العام 1988 مجلدا ضخما يمثل عنوانه "الحلم النبيل: مسألة الموضوعية والاشتغال بالتاريخ في أمريكا" الحيرة والمأزق نفسه اللذين تضعنا فيهما الأسئلة السابقة، ومن مادة علمية مستقاة من جهود كتابة التاريخ على امتداد قرن كامل في أمريكا، يركز نوفيك على المثال الأعلى لـ "الموضوعية" الذي يدفع المؤرخ إلى رصد الحقائق بأكبر قدر من الموضوعية والدقة، مبينا أن هذا الجوهر للبحث التاريخي، ويعني الموضوعية، "قد تطور وتغير تدريجيا فأصبح مستنقعا موحلا من المزاعم والمزاعم المضادة لها، وإزاءها جميعا تتضاءل رقعة الاتفاق بين المؤرخين حول حقيقة الموضوعية حتى لتصبح أقل حجما من ورقة التوت التي تستر العورة، بل وقد لا تبلغ ضآلتها حجم تلك الورقة أحيانا".

وللتدليل على هذا الحكم القاسي حيال حجة "الموضوعية" التي تستغرق بجاذبيتها المثقف أو المفكر المستقل، يذهب إلى أن كلمة "الموضوعية" قامت بالخدمة في وقت الحرب فتحولت إلى الحقيقة التي نراها "نحن" في مقابل ما يقول الألمان الفاشيون أنه الحقيقة، وتحولت في وقت السلم إلى "الحقيقة الموضوعية" للجماعات المتنافسة، أي كما تراها المرأة، وكما يراها الأمريكيون الأفارقة، وكما يراها الأمريكيون الآسيويون، وكما يراها البيض، وهلم جرا.

يقول سعيد: " لدينا، بطبيعة الحال مسائل تتعلق بالوطنية والولاء للبلد الذي ينتمي الفرد إليه، فالمثقف ليس آلة صماء بسيطة الصنع تقذف بالقوانين التي صُممت تصميما رياضيا، ومن الطبيعي أيضا أن يحس الإنسان بالخوف، وأن تؤدي الحدود الطبيعية المفروضة على وقته واهتمامه وطاقته، باعتباره صوتا مفردا، إلى التأثير فيه إلى حد مخيف". أو كما يستشهد بجان جينيه الذي يقول: إنك حين تنشر مقالات في مجتمع ما تدخل في التو واللحظة دنيا السياسة؛ ومن ثم فإذا أردت ألا تكون سياسيا فلا تكتب مقالات ولا تتحدث علناُ.