Atwasat

إنجاح الفشل الليبي

نورالدين خليفة النمر الأحد 19 مايو 2019, 11:49 صباحا
نورالدين خليفة النمر

يتوخى الساسة إصدارتصريحات غامضة بحيث يمكن تحليلها. لكي توّظف بصورة تطابق كل حدث تال. وبذلك ينأوون بأنفسهم عن اتهامهم بارتكاب الأخطاء المتقصدة. أما المنجمون الإعلاميون والصحفيون فيلقون، معبرين عن ضمائر الساسة، كلاماً مُرسلاً لا يمكن إخضاعه لشروط المنطق .

لفتني لغرابته مقال نُشر في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية المُعبرّة عن سياسة المملكة السعودية، واصفاً الحرب غير المعنية بالليبيين على تخوم عاصمتهم بأنها إعادة صياغة النموذج الليبي؟! واصفه بالنموذج الجديد الذي يتم بناؤه بعناية ووعي ضمن التخطيط لـ : ـ إعادة بناء الدول العربية ودعم استقرارها وتنميتها، ودعم شعوبها وجيوشها للحصول على الخلاص، والقضاء على مخلفات الربيع الأصولي الذي سمي خطأ وزوراً الربيع العربي، من الميليشيات والجماعات والتنظيمات الأصولية والإرهابية، التابعة لمحور إيران وتركيا وقطر. ـ ويدعو إلى تعميم النموذج الجديد بالشكل الذي نجحت فيه، مصر وهو ما يجري اليوم في ليبيا ويمثل نموذجاً قابلاً للتوسيع والتعميم.

المنهجيات التي ألممنا بها في درس السياسة بجامعة أولدنبورغ ـ شمال ألمانيا 1994 ـ 1997 تتوخى معاييرً منها المعيار البوبري لـ" Karl Popper" الموسوم بـ "معيار القابلية للتفنيد Falsifiability Criterion" الذي ينفي عن النظرية علميتها طالما لم تقبل التفنيد أو تعرف التكذيب. وقبولها التفنيد لايعني أنها خاطئة، وقابليتها للتكذيب لايفضي إلى أنها غير صادقة. فالمعيار البوبري يتوّخى المطالبة من النطرية أن تصاغ بوضوح كاف بحيث تقبل ذلك. فإذا سلّمنا بأن نظرية ـ ما ـ تكون أحسن كلّما زادت قابليتها لأن تُفنّد أو تُكذَّب، فسيكون علينا أيضا قبول كون العبارات الأكثر دقّة هي أحسن العبارات. فصاحب النزعة التفنيدية أو التكذيبية يفضّل أن يعطي لسرعة الضؤ قيمة 6 10 ×299،8 مترا في الثانية بدل حوالي 6 10×300 متر في الثانية، وهذا بالضبط لأن الصياغة الأولى بالمعنى العلمي الذي ألمحنا إليه أكثر دقة وأكثر قابلية للتفنيد أو التكذيب من الثانية.

في المجال الإنساني إذا أخضعنا أحداث التاريخ لمعايير فلسفة العلوم فيمكننا مقاربة الحدث التغييري في ليبيا 2011 لمعيار القابلية للتفنيد ممدّدينه من سياقه العلمي إلى سياقه في علم السياسة، فكما هو معلوم أن الحدث أسقط نظاماً دكتاتوريا تمدّدت أوتوقراطيته الغرائبية لأربعة عقود عبر ثورة شعبية شبه عارمة، وبدعم قوات الناتو الغربية. ولكن في الوقت ذاته فإن القوى الغربية التي حسمت عبر قوة الناتو إسقاط النظام الدكتاتوري الليبي عام 2011، أوكلت مهمة إنجاح الثورة الشعبية الليبية لتُفشلها بتزييف مضمونها للإمارتين الخليجيتين قطر والإمارات العربية، وبعد أن تبلوّر النزاع القطري السعودي في قضايا خليجية محضة، انقسمت الوظيفة إلى مسارين أسندت قطر بتركيا والأمارات بالمملكة السعودية.

يمكن وصف المسار الإقليمي الخليجي التركي بالحربي المبتدئ بقتال فجر ليبيا 2014 والخليجي المضاد له في الحرب على طرابلس 2019 ويمكن تمثيله بالعبارة الوصفية القائلة: "إن الكواكب ترسم حلقات مغلقة حول الشمس" ووصف المسار الذي تنتهجه المبعوثية الأُممية في ليبيا المبتدئ باتفاق الصخيرات بالسياسي، ويمكن تمثيله بعبارة وصفية أدّق تفيدا:"إن الكواكب ترسم مدارات حول الشمس" والذي يحّدد المسألة بدقّة أن مدارا بيضاوي الشكل سيكّذب العبارة الثانية ولن يكّذب العبارة الأولى. بينما ما من عبارة كذّبت العبارة الأولى إلا وكذّبت الثانية أيضا. ومع هذا فالفلسفة العلمية الناجعة تُقرّ بأن العبارة القائلة: "إن الكواكب ترسم مدارات حول الشمس" هي عبارة أدّق ـ وبالتالي أكثر قابلية للتفنيد أو التكذيب ـ من تلك القائلة: "إن الكواكب ترسم حلقات مغلقة حول الشمس".

وكما في العلم، فإن السياسة تشتغل بأن تفتح مدارات،عكس الحرب التي ماتنفك تُغلق مافتحته السياسة: بالتواصلات، والمفاوضات والاتفاقات والمواثيق من آفاق لحل الإشكال، وفي ليبيا الإشكال مجتمعي يتسيّس شكلياً في سياسة أنانية، ومُديروه مستعجلون لجني مكاسب وتسجيل نقاط خسارة من طرف ضد الطرف المقابل له. والسياسة الليبية اليوم بهذا المعنى لايديرها الليبيون الذين قذفت بهم العبثيات للواجهة وإن كانوا أدواتها السيئة، وهذا من حُسن حظ الليبيين الذين هم على هامش المشهد ، فقد أوكلت الدول النافذة في مجلس الأمن الدولي كما كان الحال في مسألة استقلال ليبيا 1949 ـ مع مراعاة المغايرة الزمنية ـ القضية الليبية إلى الأمم المتحدة، ومن حُسن الحظ أن تستقر وظيفة المبعوثية الأممية في ليبيا منذ 2011 بعد اجتهادات المبعوثين ليون وكوبلر إلى اختصاصي في صنع سياسة هو غسان سلامة، وتنوبه في الشؤون السياسية الدبلوماسية الأمريكية ذات الكفاءة التفاوضية شتيفاني وليامز.

مالفتني في الأداء السياسي الأخير للمبعوثية الأممية في ليبيا أنها حطت الملف الليبي على طاولة التداول الجّاد من قبل وزراء خارجية الاتحاد الأوروربي لتحديد بصورة أدّق مواقف بلدانهم إزاء مقاربات الحل، الذي حاولت أن تغلقه الحرب ففشلت وبذلك فتحت أفقاً كالذي تفتحه الكواكب بأن ترسم مدارات حول الشمس. فقد أسرع المعنيون بالملف سواء مبعوث الأمم المتحدة غسان سلامة أو ممثلو حكومة الوفاق الوطني المدنية، عبر جولاتهم الخارجية لحشد موقف دولي موحد يساعد على وضع حدٍ للأزمة، وفق مخرجات سياسية تتجنب الحل العسكري.

فقد اتفقت الاجتماعات الأوروبية هذه المرة، وهو مالم يحدث سابقاً على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار تحت مراقبة أوروبية، والذهاب إلى طاولة المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة عبر مبعوثها غسان سلامة، الذي حظي أيضاً باهتمام قيادة حلف الناتو والوعد بمساعدة ليبيا على بناء مؤسسات أمنية فعالة، بما في ذلك وزارة دفاع حديثة وأجهزة أمنية تخضع للسيطرة المدنية للحكومة. فيما جاء التطور الأبرز عبر بيان مشترك لقطبي الصراع الأوروبي على الملف الليبي (فرنسا وإيطاليا)، أكدا فيه أن ثمة تقاربًا واسعًا في وجهات النظر حول ليبيا. هذا التقارب هو الكفيل بسدّ الفجوة التي بزغ منها مروّجو الحرب من الطرفين الإقليميين فأشعلوا نارها لتحرق أوراق السلام. ويمثل استدعاء قائد مُسمّى الجيش الليبي إلى باريس، وإقناعه بالتنسيق مع روما بالخضوع والجلوس على طاولة المفاوضات وتقديم الكثير من التنازلات لصالح غرمائه في طربلس.

يؤكد أن عوامل القوة العسكرية والاقتصادية التي وفرّها له الدعم الإقليمى، والتواطؤ الفرنسي والتغاضي الأميركي والتي ساعدته على اتخاذه قراره غير المحسوب بالهجوم على طرابلس،هاهو يفقدها. فكما هي عادته في معاركه السابقة، في الشرق الليبي افتقارها للمشروع السياسي الموِّجه فهو لايعترف بالسياسة وجوهرها الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة وللحاضن المجتمعي ففي حربه على إقليم طرابلس لجأ إلى المكوّنات القبلية الهشّة، فاخترق غريان الحضرية برُعاتها من قبائل العُربان، والأصابعة، والزاوية الغربية ذات الثقل الفلاحي بالقبيلتين الزبوننتين العلالقة التي قمعت انتفاضتها عام 2011 ، وقبيلة ورشفانة الموسومة باللواء 32 معزّز، والتي انكسرت شوكتها في فجر ليبيا 2014 إزاء مصراتة، وميليشيا جيش ترهونة السابع الذي تم إقحامه من قبل ميليشيا الكانيات الأصولية، والقضاء على قوته في معارك سبتمبر 2018 ، مُضافة إليه شراذم من جنود مسرّحين ينتمون إلى قبيلة العلاونة المدرجة زبونياً من قبل النظام الدكتاتوري فيما أسماه بحزام طرابلس الكبرى بالنواحي الأربعة، حوّلوا المناطق التي يقطنها ذويهم إلى ساحة معركة دموية يسقط فيها مئات المدنيين، وتُدمّر فيها أحياء كاملة.