Atwasat

قاهرةُ الليلِ والنهار!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 14 مايو 2019, 12:24 مساء
أحمد الفيتوري

البداية

تتجلي رواية (كائنات الليل والنهار) لأشرف الصباغ كما رواية لمدينة القاهرة ما بعد يناير 2011م، فتترصد حالها ما بعد ثورة يناير دون أن ترصد الثورة التي تمسرح سرديا في الهامش/ المتن المسكوت عنه، فتبدو كما لو كانت رواية (واقعية تسجيلية!) لكنها مشتبكة في مستويات ثلاثة، أول الرواية كما مسح اجتماعي لجماعة شعبية في حي شعبي، ومن خلال هكذا مسح كشف للقاهرة التي لا تراها عين السائح لأنها لا تعيش فيها، وسط الرواية وقلبها الشخصية الرئيسة (عاشور) وهنا البنية السردية تكثف جمالية السرد والدلالة معا، ومن هذا فإن تكنيك الروائي يبين في تماسك ونسج محبوك وفي العمق، فيما الجزء الأخير خروج عن السياق الروائي حيث يبدو كما فانتازيا في قفزات غرضها كشف لامعقولية نتاج ما حدث.

مقدمة الرواية قماشة تقرير أو عرض حال الفئات الشعبية التي تعيش كما يمكن وتعمل فيما يتوفر، ومن هذا فالشخصيات تتعدد والأحداث رغم نمطيتها تتشابك وتتداخل فيما يشبه كومة من خيوط لا أول لها ولا آخر، فالتقرير ينوي تسجيل التفاصيل التي تتناسل وتتصل في اتجاهات متعددة بتعدد الشخصيات، التي تبدو كشخصية واحدة منقسمة على نفسها رغم اختلاف أوصولها وتنوعها بين إناث وذكور وشباب وكهول، تتكدس الشخصيات كما تتكدس الأحداث في زاوية حرجة، في مدينة عجوز متهالكة، في (صورة خادعة) للتفرد، تغطي حقيقة أن شخصيات الرواية كما كوم واحد لاملامح حقيقة له، أو كما جاء مختصرا ومختزلا على لسان الروائي العليم في الرواية: (ومع ذلك، لا يمكن إغماض العين عن الكيف الحقيقي لسكان تلك المدينة التي تبدو مسطولة طوال الوقت، وكأنها تدخن الحشيش ليلا ونهارا. فوضى "الكيف" في رؤوس المواطنين تشبه فوضى السير والمرور والحركة في الشوارع والمؤسسات الحكومية، لا تقل عشوائية عن فوضى الأفكار والأصوات. ولكن كل ذلك يُشكل لوحة نادرة تميز هذه المدينة المثيرة للدهشة والحيرة بناسها وقططها وكلابها وقمامتها. وكأنها تلك الأرض الفضاء التي تضم من تخلفوا عن اللحاق بسفينة نوح.)، وعلَ هذا المقتطع الطويل نسبيا تأويل النص في مجمله، حيث تكون قاهرة الرواية، القاهرة مدينة الرواية الغاصة بالمتناقضات، والتي توقع الروائي أشرف الصباغ في حبائلها حين يريد اختزالها في روايته (كائنات الليل والنهار).

الوسط

يتسلل (عاشور) الشخصية الرئيسة من البنية السردية المزدحمة في بداية الرواية، كما يتسلل من زحام (الوايلي) إلى (الزمالك)، عابرا جسر التعليم الجامعي، وطموح صبي في محل كوافير يمسى كمصفف الشعر النسائي الشاطر، ومن ثم يمارس القطيعة مع الحي الشعبي ما غادر وخالته (زينب) مربيته وآل الحي وعنف الحياة. وكذا وسط الرواية ما يستل من المقدمة فيتمظهر كما رواية الشخصية، حيث يغوص السرد في سبر لشخصية (عاشور) وعالمه المستجد، وأيضا عالم الرواية التي في قسمها الرئيس هذا تغوص فتفصل وتصفف شخصيتها الرئيسة، ما بِذا تكون الرواية، وأن المقدمة المكان/ الخلفية، فيما الخاتمة الزمان/ اللامعقول ما يتمظهر كما أشرنا في فنتازيا تعلل ضياع (عاشور) واختفاءه الأسطوري.

عاشور المزين من تزيا أيضا بالتعليم الجامعي يعيش في (بولاق أبو العلا) هامش حي الزمالك الراقي والمتهالك، إن المزين للسيدات الراقيات يفشل في أن ينفصل عن (الوايلي) مرتعه الأول، ما يعود إليه بعد قطيعة لأكثر من عقدين وفي اللحظة الأخيرة (الموت)، موت الخالة المُربية ما يحدث عند عودته دون أن يلتقيا، وما يعقب ذلك من انهيار لعالمه وعالم القاهرة فالاختفاء الأسطوري عاقبة ذلكم... تنمو الشخصية والبنية السردية بسلاسة تكشف جوانية (عاشور)، ومن خلال أحداث صغيرة ومعتادة في الحياة اليومية القاهرية تتعين هشاشة شخصيته، وعطبها المرتكز على ماض لم يمضِ وحاضر يعتصر روحه. لكن ثمة مفارقة لم أحصل على تعليل سردي مقنع لها، وأقصد التفلسف ما أصاب (عاشور) عند لحظة مصابه بالانهيار التراجيدي فالجنون ما قد يبدو تعليلا مقبولا لغيري.

الخاتمة

المرأة سيدة حياة (كائنات الليل والنهار)، المرأة المقهورة الصلبة خاتمة الرواية، ما تتجلي كأسطورة تتجسد في شجرة جذورها ضاربة في النيل وعصارتها الدماء، الشجرة حافظة روح (عاشور) من راعيته (الخالة زينب)، عاشور هذا تقول الرواية أنه: (عاش أحداث ثورة 25 يناير. شاهد مظاهراتها ومطارداتها وكأنه يشاهد فيلما غريبا، أو كابوسا). لقد انفرد وتفرد ، و (لم يشك عاشور أبدا أنه حقق نفسه، حتى في تلك الدقائق القليلة التي كان يفكر فيها بأنه لم يشعر أبدا بوجوده لا في الوايلي الكبير ولا في بولاق أبو العلا ولا في الزمالك.).

رغم ذلك ظلت نبيلة الحبيبة المغيبة، الحاضرة التي سترعى الشجرة أو غياب عاشور الأسطوري، لكن الخالة زينب كانت رفضت شرعنة علاقة نبيلة وعاشور:
(هدأت العاصفة المكتومة قليلا، طلب منها عاشور أن يتقدم لخطبة نبيلة، ردت عليه في هدوء:

- خليك في حالك، يا بني، وخلينا في حالنا...).
لا شيء خلال السرد يوحي بهكذا خاتمة قدرية ومفارقة حد الفنتازيا غير هذه الجملة القاطعة من قبل الخالة زينب، ثم رفضها لأي رابط بينه وابنتها نبيلة، ما قد يكون مبررا سرديا لقطيعة (عاشور)، من بدأت له ثورة 25 يناير ككابوس. غير أن هذا في الأخير يتبدى كما تراجيديا يونانية، بذرة أو جين الروح يحملها كالوعي الشقي ما تدركه نساء عاشور، لكن لا يدركه هو اليتيم، المتعلم، المزين، المتحول إلى أسطورة، الغامض كما علته، ذا الكائن من (كائنات الليل والنهار)، وهو رواية أشرف الصباغ لثورة 25 يناير...

تعليق على ما تقدم

الافتراض الأساس الذي على أساسه بدأ تحليل النص هو افتراض أنه رواية دون أي تعليل لهكذا افتراض. وهو للأسف ما يقوم به النقد التطبيقي حاليا، حيث يبين وكأن مسألة النوع ثانوية أو لا محل لها من الإعراب، لكن هذا قصور، وعلى الأقل تخطٍ لمسألة نقدية هامة في نظرية الرواية.

في حالي مع رواية أشرف الصباغ (كائنات الليل والنهار)، لقد تلمست أني أمام نص ينفلت من التصنيف، أو يدخل تصنيفات عدة في نسجه السردي، حيث إن المبني يتنوع فيتمظهر النص: في البدء كما تقرير تسجيلي يستعيره من الفلم التسجيلي الذي يقدم كبانوراما لمدينة الرواية، وفي الوسط تبدو رواية شخصية محبوكة تغوص في غور (عاشور) كما تشكل "بورتريه" له، وفي النهاية ينفلت النص من هذا وذاك، لتعلل الواقعية التي حكمت السرد والرؤية، فالواقعية هنا بالمعنى الكلاسيكي تبني وتعلل من ناحية وتنقل ما متعارف عليه وما معقول، لكن النهاية في النص تعلل الواقعية بالخروج عليها إلى اللامعقول، فتكون الفنتازيا كما نتيجة قدرية ما في حكم التراجيديا اليونانية، فالثورة حركت الراكد فحسب فتكشفت الأعطاب أو كما تبدَّى لي.

وحيث "لا تستقيم وظيفة السرد من دون تحويل الأفكار إلى أشكال حكائية" تكون حكائية الرواية كما قصة قصيرة تشيكوفية فيها التقديم فالوسط فالطلقة أي النهاية.
وإني أجد في تعليل الناقد عبد الفتاح كليطيو لماهية النص سندا، فتوضيحا لرؤيتي حول نوع النص حيث يقول: ما يهم في النص الأدبي هو ما يكون فيه من لبس وغموض، فتتساءل: "ماذا أقرأ؟" ما هذا النص الذي أقرأه؟ وإلى أي نوع ينتمي؟. في هذه الحالة، حينما يكون النص ملتبسا وغامضا من ناحية النوع الذي ينتمي إليه، يكون النص ناجحا أو أوفر حظوظا للنجاح".