Atwasat

أمنا القاسية لا تركل أبناءها

محمد عقيلة العمامي الإثنين 13 مايو 2019, 12:36 مساء
محمد عقيلة العمامي

التقيت بالمقهى الثقافي، بمعرض القاهرة للكتاب، الصديق عيسى عبد القيوم أيام غربته ومعارضته نظام القذافي. وأحسست بحنينه لبلاده. خلال أيام ذلك المعرض لم يغب عيسى يوماً عن المقهى ولم يترك فرصة من دون أن يقترب من رواد المقهى من الكتاب الليبيين الذين حضروا تلك الدورة، محاولاً أن يؤسس علاقات معهم كافة، ثم كتب عددًا من مقالات أثراها بصور مع من التقاهم بالمعرض. ثم بدأت أتابع كتاباته، التي تواصلت بعد ذلك، بعد أن وجدتْ لها مساحة وقبولاً عند قراء الصحف الليبية. كان ذلك سنة 2007. كان لتتبعه قضايا الوطن وهمومه وصدق حنينه له وغيرته عليه طعم متميز.

توقعت بعدها أن أراه في بنغازي مبتهجاً بعد غربته الطويلة. ولكن عودته تأخرت، ولم أره في بنغازي إلا في الأسبوع الأول من بعد 17 فبراير2011.

كنت قد كتبت يوم 5/10/2009 مقالاً بعنوان «رباية الذائح سابقًا»، مستعيرًا العنوان من كاتب قالها لي ساخرًا، فرد عيسى بمقال عنوانه «رباية الذائح.. تغفو ولا تموت» نشرت في بنغازي كتعقيب على مقالتي، التي أشرت إليها.

كان واضحاً أنه انتبه أنني، أناكف بدلال معشوقتنا بنغازي، وإن كنت أريد أن أقول، إن العشق فقط لموقع الرأس لا يحل مشاكله، لأن المشاكل لا تحل أبدًا بالعاطفة المجردة، ولا بالنوايا الطيبة، حتى لو تأسفنا دهراً، وتباكينا على بحيرة بنغازي، التي شبهت ذات يوم ببحيرة جنيف، التي صارت مستنقعاً لمياه الصرف الصحي، وصارت روائحها العفنة تصل حي «عرجون الفل» عندما تهب الرياح الغربية، وأحياناً تصل جزيرة كريت اليونانية عندما تهب رياح القبلي!

«العشق يفرض على العاشق أن يخاف على معشوقته، يصلح من شأنها ويهتم بها ويعالجها عندما تتوعك، والعلاج الحقيقي يحتاج إلى العلم، إلى الملاحظة والتجربة والمراقبة والاستنتاج.. ثم الإصلاح». وأوردت له عددًا من أمثلة كانت حينها حديث الشارع في بنغازي. واستطردت:

«مثل هذه الأمور - كما لا يخفى عليك - تعرف وتعالج من خلال الدراسة العلمية المبنية على الإحصاءات، والبحث والتقصي وليس عن مجرد التكهن والحكم السطحي المتسرع، وذلك لا يتأتى إلا بحضور العقل القيادي المخلص المناسب، الذي يهمه بالفعل التصحيح والعلاج من دون يكون للعاطفة تأثير طاغٍ. عندها فقط سوف نعرف لماذا غاب شباب بنغازي عن الفوز بفرص القروض. أوقد تكون المصارف قد وزعت تمويلها على مناطق دون أخرى لسبب من الأسباب؟ وقد تكون هناك أسباب أخرى يعلمها الله ومن وزع هذا التمويل فقط؟

لا أحد بمقدوره أن يقدم لنا الإجابة الشافية إلا بعد التحقق والدراسة؟ ولا أحد سيقوم بهذا العمل الذي يبدو للوهلة الأولى أنه بسيط ولا أهمية له إلا المسؤول المخلص الحريص على معالجة الأخطاء بالعقل، وليس بالعاطفة؟

دعنى أسوق مثلاً آخر.. «البنكينة» أعني رصيف الصيادين في بنغازي مزرٍ للغاية، خصوصًا أنه يحتل موقعًا متميزًا للغاية. وبحكم علاقتي المباشرة به، وبالصيد البحري عاصرت عدداً لا يحصى من محاولات لإزالته، وفشلت كلها لأن تأسست على عاطفة وليس على عقل، لأن الواقع يؤكد ضرورة الإزالة، والواقع يؤكد، أيضًا، أنه مصدر رزق لعدد كبير من الليبيين، ناهيك عن تزويد المدينة بحاجتها من هذه السلعة.

والآن، أؤكد لك الرصيف سوف يزال لأن التنفيذ قام على تقديم العقل قبل العاطفة، فلقد خصص مكان مناسب لتشييد أسواق للسمك، ولن يزال السوق الحالي إلا بعد الانتهاء من التنفيذ والانتقال إليه.. أما الرصيف فجارٍ العمل فيه ولن يمر وقت طويل حتى ينجز.. ولا أريد أن أسوق أمثلة أخرى حتى لا أنجرف وراء«عاطفة» التفاؤل ! «ولكن لا السوق شيد ولا البنكينة طورت!

وحتى لا تطول رسالتي هذه، التي وددت أن أحملها امتناني، ورغبتي الصادقة أن أراك قريباً في بنغازي التي، كما قلت، لن تموت طالما هناك من يحبها بعقله قبل عاطفته.

كل ما تحتاجه مدينتنا ـ يا صديقي العزيز ـ رجال ينتمون لها، يعشقون ملاعب طفولتهم، ورهبة أوائل أيام دراستهم، ويعملون بإخلاص، وصدق وعفة على تنفيذ مشاريعها، لا ينهبون موازناتها، إنما ينفقونها بما يرضى الله من دون تقديم مصالحهم الشخصية، وإمساك السلم بالعرض أمام أي مشروع لا تصلهم منه «تفتوفة».

كل ما تحتاجه بلادنا أن يتولى أمرها أهلها، الذين يعون جيداً أنها منحتْ، لعقود طويلة، الحياة للوطن بكافة أطيافه، وكان الفقر لا يعيرهم، مثلما تعيرهم قذارة السلوك!
ويا صديقي العزيز، أمنا القاسية لم تعد تركل أبناءها، بل صارت تتحرق شوقًا لعناقهم، لأنها تحتاج للمخلصين منهم، ولأنها تعي تمامًا مرارة الغربة! وختاماً لك منها دفء قلبها».