Atwasat

طعامٌ ولاطاعم.. وموسيقى ولا راقص!

جمعة بوكليب الأحد 12 مايو 2019, 12:15 مساء
جمعة بوكليب

لا أدّعي دراية وعلماً بفن الطبخ، وليس لديّ خبرة أومهارة أتنطع مفتخراً بهما، وقد أُحسدُ عليهما، في إعداد وجبات طعام شهية، ومميزة. وأكلتي المفضلة بسيطة، شعبية وفقيرة المكونات، وعذبة المذاق. وأحب التهامها ساخنة، كل الفصول، وإعدادها لايتطلب مؤهلات ولا خبرة. هذا أولاً.

أما ثانياً، فهو أن قضاء عشرة أعوام، في سجن عسكري، ليبي، يفتقد لأبسط مقومات حياة إنسانية عادية، معتاشاً على ما يقدم لنا من طعام تعافه الخنازير، أمر آخر، يؤخذ في الحسبان. بمعنى أنني، بعد تلك السنين المؤلمة، صرت قادراً على بناء علاقة تتسم بكثير من الحيادية مع الطعام، عموماً، تجعلني، إن كنت جائعاً، لا أتردد في أكل أي طعام، يقدم لي، من دون إبداء تذمر، مهما كان مذاقه، طالما أن شخصاً آخر، وليس أنا، من أعدّه، وحرص على استضافتي، بتشاركنا في لقمة "عيش وملح". 

ثالثاً، وهذا المهم، وهو أن هذه السطور ليست مخصصة للحديث عن الطعام، ولا عن أسرار إعداده، وفن طبخه، وتذوقه، بل للحديث عن سرّ صغير يخصّني، احتفظتُ به لنفسي، كعصفور في قفص، ثم أخيراً، عَنّ لي إطلاق سراحه.  

سرّي الصغير، لن يعود سرّي بعد الآن، هو شغفي بمتابعة ما يكتبه صحفي بريطاني، اسمه "دجي راينر"، محرر ملف شؤون الطعام والشراب، بالملحق الأسبوعي بصحيفة الأوبزرفر. دوافعي لا علاقة لها بما يتحدث عنه من طعام، رغم أهميته، في مقالته الأسبوعية، أوما يطرحه من ملاحظات وانتقادات وغيرها،على مطاعم زارها، خلال الأسبوع، متفقداً طعامها وشرابها، ملتفتا إلى ما يغمرها من طقوس، ويدثرها من أجواء ومناخات. 

ما يشدّني إليه، ويجعلني معنيّاً بمتابعة مقالاته، هو جمال سرده، وتفاصيل وصفه، وظرفه، وتيقّظه في التعامل مع اللغة بحرفية كاتب يتذوق كلماته، قبل أن يقدمها للقاريء، مشدّداً على أن تكون جُمله، وعباراته، وجباتٍ ممتعةً، بنوعية راقية، وتنتمي، بجدارة، إلى فن الكتابة الصحفية، وكأنه طباخٌ مشهور، في مطعم خمس نجوم، يستمتع بإسعاد زبائنه بتقديم وجبات غذائية لذيذة، معروضة بأشكال بديعة، وكأنها لوحات فنية. 

كتب مرة يقول: "كونك صحفياً، يعني أنك مرخّص لك بتوجيه أسئلة فظة، وأن دفتر ملاحظاتك الذي تمسكه بيدك هو شارة تقول: أنا لا أسألك حول هذا الأمر الحساس لأني فضولي، ولكن لأن وظيفتي تتطلب ذلك. والآن، أعد علي سمعي ماذا فعلت؟ ومع من؟ وعلى وجه الدقة، أي نوع من التوابل استخدمت، وكميته؟"

المحزن، أنني منذ أن تعرفتُ على السيد واينر، صدفة، ذات نهار أحد، لندني، ممطر وبارد، ولايدعو مطلقاً إلى مغادرة دفء البيت، من خلال تصفحي للملحق الأسبوعي للصحيفة، التي يعمل بها، لم أقم ولومرّة واحدة بارتياد أي مطعم أوصى به للقراء، ولو من باب التجريب، أو جبر الخاطر، أو حتى محاولة إشباع فضول جائع في داخلي. وكأن كل متعتي، وانتشائي يتجسدان في التهام ما يكتبه وينشره من مقالات بنهم، واستمتاع. وحين أنتهي من القراءة، أكون في حالة شبع، تتطلب لحظات استرخاء لهضم ما التهمت. وكثيراً ما كنتُ أعزو ذلك التردد لكسلي، أو لأي شيء آخر ينفع أن يكون مشجباً أعلق عليه ما يعنّ لبالي من أعذار، ومبررات. 

لو علم السيد واينر، عن تجاهلي لتوصياته، التي يحرص على نشرها في مقالاته، لربما شعر بشيء من إحباط، أو لربما شعر بحزن لأجلي، مثل ذلك المغني الأوروبي، الذي جاء ذكره في إحدى مقالات المرحوم الدكتور على فهمي خشيم، لدى زيارته ليبيا في صيف 1968 وأحيا حفلا غنائياً على مسرح مدينة صبراته التاريخي. وكان حفلاً ناجحا. لكن المغني الأوروبي، بعد انتهاء الحفل، علت ملامح وجهه علامات تشي بحزن وإحباط. وحين سئل عن السبب رغم نجاح الحفل، قال إن الحفل، بالنسبة له، فاشل، لأنها المرّة الأولى التي يحيي فيها حفلاً موسيقياً، ولايرى أحداً من الجمهور ينهض من مقعده، ليرقص على إيقاع وموسيقى أغانيه!.