Atwasat

الشبردق..

سالم الكبتي الخميس 09 مايو 2019, 03:13 مساء
سالم الكبتي

عام 1961 وصل الليبيون إلى عيد استقلالهم العاشر. كان أعلن فى ديسمبر 1951. خطوات وانطلاقة مع عثرات ومحاولات. وخلال هذه السنوات العشر وطنت الدولة التعليم واهتمت به. الجامعة والمعاهد والمدارس الفنية ثم الكلية العسكرية وكلية ضباط البوليس والجامعة الإسلامية والبعثات إلى الخارج وابتهج الليبيون جميعا قبيل نهاية العام بتصدير أول شحنة من البترول إلى العالم. حضر الملك الافتتاح ثم حذر من مغبة الرخاء وأشار بأنه له مشاكل والكفر بالنعمة من موجبات زوالها.

كانت ليبيا محصورة قبيل الاستقلال وبعده فى شبردقات من التخلف والمرض والأميه والجهل. والشبردق هو تلك الأسلاك الشائكة التي عرفها الليبيون جيدا أثناء فترة الاحتلال الإيطالي. أقام الطليان بفكرهم الفاشي والعنصري معسكرات الاعتقال الرهيبة في الأماكن القاحلة ورموا فيها جموع الليبيين طيلة أعوام لم تنته إلا عقب إلقاء القبض على عمر المختار وإعدامه.

كانت الشبردقات في سلوق والعقيلة والمقرون والبريقة أسوأ صورة من صور الفاشية الإيطالية. تفتق الذهن الفاشي وسبق العقلية النازية فى حشد البشر وتعذيبهم والنكاية بهم في ظروف بالغة الوطأة فيما سلطت الناس داخل تلك المعسكرات على بعضهم بعضا وأضافت إلى المآسي مآسيَ أخرى كثيرة. تفنن البعض في إيذاء ذوي القربى وجلدهم بل وتنفيذ أحكام الإعدام وسط المعتقل.

العقلية الاستعمارية بكل دهاء استغلت عوامل عديدة فى نشر روح الحقد بين أبناء الوطن الواحد وفعلت ذلك في كثير من مستعمراتها. في ليبيا الباندات وفى الجزائر الحركيين. وفي نواح متعددة من أفريقيا وآسيا. وجعلت الجموع تواجه بعضها بالدم والحقد والثارات.

كانت الشبردقات تعني في مضمونها كل المرارات والحواجز بين البشر. لم تكن سجونا أو مراكز للتوقيف بل تعدت ذلك إلى كل مضامين القهر والأبعاد النفسية والاجتماعية والإذلال وخلق الفتن والحساسيات بين من يضمهم الشبردق الذى يضم خياما بالية على مد النظر وسط العراء وتحت الشمس وكل عوامل الجو والطقس المتغير في اليوم ألف مرة.

كان الشبردق يعنى الإذلال من المستعمر ومن يتعاملون معه ويمنحهم الفرصة لقهر الآخرين على الدوام. الشبردق في ليبيا كان عنوانا مؤلما للمعاناة والظلم وأشده من ذوي القربى. وكثيرا ما تردد في الروايات والحكايات صدى تلك المعاناة في الشبردقات. لكنها لم تخرج كثيرا فى مصادرنا المحلية. ظلت من المسكوت عنه كما هو الشأن فى قضايا مختلفة. ولقد نطق الشعر الشعبي بقصائد وملاحم طويلة عن هذه الشبردقات وصور في بعض ظلالها ظلم ذوي القربى!!

المستعمر جعل الوطن كله في شبردق كامل. ثم مد أسلاكا شايكة ملغمة امتدت على طول الحدود مع مصر. من البردي إلى جوف الصحراء في الجغبوب مازال باقيا إلى اليوم لمنع وصول الإمدادات أو الهروب إلى مصر.

والشبردق ثقافة استعمارية قد تتجدد وتقيم الحواجز وتقهر الناس وتضعهم فى جحيم الفتن والثارات والصراعات. وفكرة الشبردق مر عليها الكثيرون دون فهم لما تعنيه. ظلوا يمرون بها دون تحليلها أو دراستها بالمفهوم المحلي المطلوب. نسوا ذلك في أيام الرخاء التي حذر الملك من مشاكلها وأسبابها. نشأت للأسف شبردقات كثيرة لاحقة في أعوام تاليات من العنصرية والقبلية والجهوية والتقاطع. شبردقات نفسية تشد إلى الخلف وتقتل الوطن تحت كل الظروف.

فى ذلك العام 1961 بعد ثلاثين عاما من نهاية الشبردقات الإيطالية وبعد عشرة أعوام من إعلان الاستقلال كان ثمة معلم وكاتب وقاص هو طالب الرويعى يهتم بهذا الموضوع. يكتب مسلسلا إذاعيا باللغة العربية ويقدمه إلى زميله فرج الشويهدى. كان معلما مثله وإذاعيا من الطراز الأول قدم الكثير من المواهب في هذا المجال. قام بإخراجه وإعداده في حوالي اثنتي عشرة حلقة. كانت الإذاعة انتقلت من مقرها الصغير فى راس اعبيده إلى مبناها الجديد في بنغازي. هناك التقى في التمثيل والأداء: محمد بوفانه وعبد الحفيظ الشريف ومحمد نجم ومحمد علي الورفلي وعبدالفتاح الوسيع وعلي زيو وحليمه الخضري. جسدوا تجربة الشبردق ومعاناتها. ونجح الجميع في هذا المسلسل لتقريب صور البشاعة إلى أذان المستمعين. لجأ فرج الشويهدي إلى استخدام المؤثرات بطريقة ذكية. كان يذهب والفريق الفني إلى خلف معسكر الجيش البريطانى فى السلماني (المستشفى العسكري) ويقومون بقص وقطع بعض الأسلاك هناك المحيطة بالمعسكر وفي ذلك جرأة وتهور رغم كل الظروف عندما يستوجب الدور ذلك في محاولات تجسيد هروب البعض من الشبردق.

الشبردق في الإذاعة كان من اللوحات الفنية المبكرة التى حكت باختصار عن عذابات المعتقلات الفاشية. وربما عجزت عن ذلك أعمال أخرى في تلك الأعوام.

.. ولتسقط كل الشبردقات في العالم ومن بيننا أيضا!!