Atwasat

الوصفة رقم 7

أحمد الفيتوري الثلاثاء 07 مايو 2019, 01:59 مساء
أحمد الفيتوري

1-
عندما قال جوزيف كمبل في «قوة الأسطورة» إن الأساطير تمثل المفاتيح التي توصلنا إلى أعماق قوانا الروحية، وقادرة في الوقت ذاته على أن توصلنا إلى الفرح والاستنارة وحتى الغبطة الروحية، كان يتكلم كمن عرف أمكنة غير مطروقة، ودعا الناس إلى زيارتها.

أحالتني «الوصفة رقم 7»، رواية أحمد مجدي همام، إلى «قوة الأسطورة» واستدعت جوزيف كمبل، لكن قبل ذلك وأثناء تصفحي الكتاب وفي آخر صفحة وجدت «خريطة أرض اللا بوريا كما رسمها مليجي الصغير موضحاً خط سيره من الجنوب إلى الشمال»، وكنت قد انتهيت من قراءة «الشبكة الإنسانية - نظرة محلقة على التاريخ العالمي، جون روبرت منكيل وابنه وليام هاردي منكيل، ترجمة مصطفي قاسم، عالم المعرفة 458أغسطس 2018م»، وهو كتابة للتاريخ البشري تستقي رؤيتها من خلال الشبكة العنكبوتية، فيرسم الكاتبان خارطة لهذا التاريخ كما شبكة تتصل وتنفصل دون قطيعة، خارطة هذه الشبكة التاريخية ذات روابط متداخلة في الزمان والمكان، أي أن التاريخ البشري كما الإنترنت.

وقبل وفي نفس الفترة طالعت «مغامرات بينوكيو» لكارلو كولودي، وكنت وليس مصادفة مرة أخرى قرأت «ألف ليلة وليلة» بعد أن قرأت رواية ربيع جابر «بيريتوس، مدينة تحت الأرض» التي نسيتها، لكن «الوصفة رقم 7» ذكرتني بها كقصة لحارس يسقط في جوف الأرض ليعيش حياة مع كائنات أخرى لا بشرية في عالم فانتازي، والرواية هي كما مذكرات الحارس في هذه الرحلة.

كما تلاحظون أن «أحمد مجدي همام» استدعى في ذاكرتي هذا، وكذا عنوان روايته أحالني إلى رحلات سندباد السبع، وما قابل من بلاء وأهوال حتى حاز النجاة وعاد إلى بغداد. 

2-
إن رواية « الوصفة رقم 7» كما يرويها مليجي الصغير الشخصية الرئيسية، والراوي العليم عبارة عن رحلة في أقاليم سبع هي بلاد كائنات لا بشرية أو بشرية مشوهة، وتتداعى الفانتازيا في أحداث تنثال من مخيلة الكاتب كواقع ينتقل خلاله مليجي الصغير في حالة من الهروب والبحث عن النجاة في كسر للتوقع والمعقول، وفي هذا هي رواية الأسطورة التي يختلقها الروائي أحمد مجدي همام فهي أسطورته، وخريطة الشبكة الإنسانية المتخيلة لرحلة الإنسان الذي يجتاز العقبات السبع ما هو الرقم الأسطوري الدلالة، إلى جانب أن الكيف الذي تعاطاه ناتج التجربة المعملية السابعة التي خاضها. 

تبدو رحلة مليجي الصغير كما شبكة تاريخية يجتاز فيها محناً لأجل الوصول إلى «كابوريا بلاد كل الخلق»، لكن المفارق في الخاتمة: حين يصل مليجي كابوريا ويلتقي أحمد زكي المسؤول عن منح جواز الإقامة في البلاد الحلم، المفارق أن مليجي يطلب العودة لبلاده التي غادرها دون إرادة.

أما مدخل الرواية، فهو مفارق لأنه واقعي ومعلل ويستند إلى خبر تناقلته وكالات الأنباء: « الرجل الفلبيني الذي اسمه رودريغو دوتيرتي فعل الأمر نفسه في بلاده. المجرم، عديم الإنسانية، قتل في شهر واحد، ثلاثة آلاف من تجار المخدرات، وترك سكان السبعة آلاف ومئة وسبع جزر غارقين في الواقع الكئيب، بلا حقنة واحدة، بلا سيجارة حشيش واحدة، بلا سطر هيروين واحد... بلا أي شيء. وهذا أيضاً ما حدث هنا، في الحارة الشعبية التي يعيش فيها مليجي، في مدينته الكئيبة الواقعة في أحد أقاليم بلاده الرمادية.» 

وكأنما اللامعقول لا يعلل وجوده إلا المعقول وهذه مفارقة روائية، فالمتخيل لا يعلل لأنه العلة، والمسند إليه في الرواية هو الخبر المحتوي على فعل الرئيس الفلبيني، أما المسند فهو الرواية، ورغم ذلك فإن القارئ في تقديري سيتجاوز هذا الإسناد من خلال البنية الأسطورية للرواية التي تنسج الحكي وتمسك بالأحداث المتداخلة في عالم فانتازي محكم، وهذه الغرائبية السلسة محمول جماليات الدلالة التي ليست بحاجة إلى عالم المعقول كما نجد ذلك في ألف ليلة وليلة أو فيما وُصف بأنه روايات للأطفال كما «مغامرات بينوكيو» لكارلو كولودي التي لا يعقل فيها المخيلة أي عقال.

لقد بدأ السرد محكماً في رواية «الوصفة رقم 7» منذ افتك الروائي السرد من معقوليته التعليلية وانساب في معقوليته التخيلية، ومنذها يبدأ العالم الروائي متحرراً وانسيابياً. وبهذا أجد البحث المضني للمليجي الصغير عن طريقة معملية لتحضير الكيف طالت دونما داعٍ سردي للبنية الروائية، وإنما هو جهد من الكاتب لإقناع القارئ بعوالمه الفانتازية الآتية، لكن في الرواية بعد ذلك الروائي أحمد مجدي همام، كما رأى كمبل الأسطورة، كمن عرف أمكنة غير مطروقة ودعا الناس إلى زيارتها.

3-
خاتمة الرواية من جنس المدخل واقعية وتعليل لرحلة مليجي الصغير اللا معقولة، وكذا تعليل للراوي العليم من هو كاتب الرواية التي كما مذكرات الرحلة، إذ هناك رواية أسطورة هي رحلة مليجي الصغير في الأقاليم السبعة بين دفتي مقدمة وخاتمة واقعية.

السؤال: هل ثمة فارقٌ ما بيِّنٌ وممكنٌ رصده في الكتابة بين الحالة الواقعية وبين الحالة الفانتازية، أي بين الرواية المتن الأسطورة وبين المقدمة والخاتمة المعقولين؟، رواية «الوصفة رقم 7» تفترض أنْ ليس ثمة فارق، ولهذا الكاتب يشتغل على التعليل في العالمين، وينساب سرده في لغة ذات مستوى واحد تقريري ووصفي مقتضب وجمل برقية. وفي المتن الروائي: رحلة مليجي الصغير البنية السردية تغترف من روايات الرعب، فالأحداث أهوال ووصف الكائنات المشوهة يخيف، وفي هذا ما يشي بذاكرة طفولية مليئة بالقصص الشعبي، ومنه ما يستفز مخيلة المتلقي فتتلاحق صور الذاكرة من ناحية، ومن أخرى تحيل على الواقع الذي جاء في مدخل الرواية المحمل بالقتل والجريمة... وهلم.

وأما الغياب ما يسببه الكيف، فهو حاصل ما دعت الحاجة إليه قبل وبعد كنتيجة لغياب الكيف ما هو ركيزة السرد ومبرر أحداثه وسند الحكي المركز، عليه فإن الخطاب الروائي المسكوت عنه يشي بأن العالم الواقعي أي حياة مليجي الصغير، والحالة الأسطورية التي يعيشها كما حلم، هو عالم واحد متداخل وسيان وفي هذا نرصد جماليات الدلالة التي أشرنا إليها.

4-
لم أحصل على الرواية إلا قبل يومين من كتابتي هذه، ولم أطالع الرواية إلا مرة واحدة، لهذا فما كتبت ليس إلا انطباع قارئ حيث لكل قارئ قراءة، ومن ذا قرأت «الوصفة رقم 7» كرواية أسطورية أو كما تلقيتها في جلسة واحدة، فتجاوزت المدخل والخاتمة وتلقيت رحلة مليجي الصغير كما أنه الرواية.

ما جعلني في راحة من التأويل فاستكنت للمتعة المتحققة في الأسطورة، التي يوكد جوزيف كمبل: أنها تنطلق من الخيال وتقود إليه. أو كما قال: كل من يكتب عملا إبداعيا يعرف أنك تنفتح، تسلم نفسك، والكتاب يتكلم إليك وفي الوقت ذاته يبني نفسه.

هكذا تكلم همام...هكذا حدث «الوصفة رقم 7» فقال.. «اتفقا على أن يلتقيا مساءً في المقهى. وقرر مليجي استغلال الوقت حتى المساء، فذهب إلى المعمل ألقى نظرة على الشجرة فوجدها كما كانت. من أحد الأدراج أخرج دفتراً صغيراً، ثم عاد إلى الطاولة الرخامية السوداء في الصالون. في الصفحة الأولى من الدفتر كتب: ثبت بالكائنات العجيبة التي قابلتها في أرض اللا بوريا.. وتوثيق وتكريم لأبطالهم وشهدائهم في رحلة كابوريا.. تأليف مليجي الصغير»، وعلى الغلاف الخارجي كتب بخط أكبر: «أنا في اللا بوريا».

ثم فتح الدفتر، وبدأ يدون...».
هكذا قرأت الرواية في عجالة، وليس هكذا أظنني قارئها في غير هذا الحال.