Atwasat

زمن يتيم مع أحمد إبراهيم الفقيه في باريس

سعاد الوحيدي الأحد 05 مايو 2019, 03:27 مساء
سعاد الوحيدي

لقائي الأول به كان عبر الورق، رسالة الكترونية يخبرني فيها بعزمه على القدوم لباريس، وأنه على شوق للقائي. سطر كلاما جميلا بقصد التعبير عن اعتزازه بما أجهد من أجله، وإعجابه الكبير (بما قد تمكن من الاطلاع عليه من) كتاباتي. وكيف أنه حاول التواصل معي مراراً دون أن يفلح.... (أنا التي أوصدت أبوابا شاهقة على عزلتها،...). شرح لي في الرسالة كيف تحصل مؤخراً على عنواني الإلكتروني، وعرج للتعريف بنفسه..... وهو القامة الفارعة في سماء الكلمة الليبية، لم يكن محتاجاً لأن يعرفني بنفسه، (وكان صديقاً عزيزا للكثير من الأهل والأصدقاء). غير أنني لم أكن ساعتها في باريس، (أنا الطائر المحلق في أفق الوجود، كنت أجوب صحاري بعيدة). لكنني سعدت جداً بفكرة أن ألتقي به، برمز مثله، في مدينة مثلها....، أن يسمح لي القدر "أخيراً" أن أتقاسم بعض من كنوزها مع أهلي وعشيرتي دون أن أخشى عليهم من خطر أن ترصدهم عيون السلطان برفقتي. وشددت عليه وأنا أرسل له رقم هاتفي، أن يخطرني حال وصوله المدينة.

تواصلي الصوتي الأول مع أحمد إبراهيم الفقيه تم بعد ذلك في سياق عجائبي، حيث كنت، عندما رن الهاتف (بذبابات رتيبة) قرب قلبي، في لحظة اعتكاف عذبة داخل الغار الذي قضى فيه نبي الله أيوب سنين طوالا من الصبر والألم والعزلة، (بمدينة أورفة الجميلة شرق تركيا). حيث تحولت النار برداً وسلاماً على جده خليل الله إبراهيم من قبل، وحيث تبتهج الروح والأبصار بمقامه خرافي المعمار والمعنى، وحيث يوجد أكبر مخيم للاجئيين السوريين في تركيا، ومن حيث يمكن للمرء أن يطل على الأراضي السورية وكأنه في حضنها، وحيث كنت ألتمس بعضا من أحاجي الصبر عند مقام أيوب/ الرمز بإطلاق لهذا المعنى صعب المراس. وقد اجتاحتني حاجة للتزود بسكينة من ذاك، أمام انكسار ظهر تكسرت فوقه النصال على النصال. وبات اليأس يزحف على مساحة الأمل، كزحف النار على هشيم تيبس بشمس حارقة.

رحبت به وأخبرته عن قرب عودتي لباريس لحضور العرض الأول للفيلم الوثائقي (الصرخة المكبوتة)، الذي رصد جرائم الطاغية الأسد بحق حرائر سوريا، العمل الذي كنت وراء إنجازه، ودعوته لأن يحضر الحدث.
الرد كان قصيدة شعرية بالحبور والتأكيد على الحضور، ورجاني أن أتواصل معه حال وصولي، وهكذا كان.

حينئذ أخبرني أنه يقيم في ضاحية الشانزليزيه، وعلقت مازحة بأنني لا أتعامل مع هذه الأمكنة البرجوازية (قبل أن تقتحم القوة الكادحة هذه الجادة الخرافية التفاصيل، وتزرعها باللون الأصفر). واقترحت عليه أن يلتحق بي مباشرة في مكان العرض، وسط باريس، الأقرب للكدح والثقافة.. الأقرب للحي اللاتيني حيث كان مخاض أكثر من إنجاز إنساني عالمي.

حضر أحمد إبراهيم الفقيه العرض، وكان الليبي الوحيد المتواجد في القاعة الباريسية الأكبر (بفوروم السينما/ في لي هال-شاتليه). كان متألقاً كنجم شحذ كل أنواره، سعيداً كعصفور على جناح فرح، وهو يخترق ولوجاً استثنائيا لعوالم الفن والثقافة في باريس على نحو لم يتوقع أن يتم له. وأسعده كثيراً أن يكون طرفاً في الاحتفال بإنتاج سيدة ليبية وفق ما لم يكن يتصوره ممكناً، كما كرر لي، وهو يستمع لتوالي الشهادات النقدية؛ قبل وبعد العرض، بأنه لولاها لما كان لهذا الفيلم أن يرى النور. وكتب عن هذه اللحظة المقال الليبي اليتيم الذي تناول الموضوع، (وكأن ما تحققه إمرأة ليبية على الساحة العالمية لا يهم الليبيين)، وذلك مقابل مئات المقالات التي كتبت بمختلف لغات الأرض، عن عمل حاز على سبع جوائز دولية كبرى. وذلك رغم أنه كان يتحدث عن وجع عربي. وبشهادات مرصودة باللغة العربية، دون دبلجة، ودون تدخل سينمائي. حيث اختارت المخرجة الفرنسية الكبيرة مانو الوزو أن تنحاز لوجعي، وأن تترجمه في لوحة سينمائة رائدة، صوتاً وصورة كما هو دون إضافة أو تحريف. وقد وافقتها الصديقة أنيك كوجان (صاحبة كتاب الطرائد الذي رصد جرائم القذافي الجنسية)، التي شاركتنا العمل على الشريط، على هذا الاختيار السينمائي الجسور، والذي كان أقرب لمغامرة خطرة النتائج.

وقد غمرني حينها حبور طفلة، مبتهجة بوجود شخصية ليبية بين آلاف الحضور الذين تدفقوا على مكان الحدث، ممتنة كمن يعيش فرحاً يخصه رغم جلل الموضوع. فقد كان لوجوده في القاعة وقعه الخاص على قلبي، وكان لوقوفه إلى جواري في الاحتفالية التالية طعم الوطن. بينما أسست تلك اللحظة لأحمد إبراهيم الفقيه لمعراج فكري استثنائي؛ حيث التفت حوله نخبة من رموز الأدب والفن والسينما الفرنسية، تناقشوا معه عن أعماله ورؤياه.. واقترحوا على منتج الفيلم أن يجسد بعضاً منها للسينما الفرنسية. هذا الذي طلب منه أن يرسل إليه كل ما لديه، اعتزازاً برجل (وهذا ما قاله المنتج حرفياً)، قطع نصف الأرض ليأتي ويشاهد العرض الأول لأصعب الأفلام التي أنتجها في تاريخه. كما تبادل خلال السهرة مع الصديق العزيز البرفسور برهان غليون (أول رئيس للمجلس الانتقالي السوري) انطباعاته على الشريط. شدد إبراهيم الفقيه لبرهان غليون يومها على أن هذا الفيلم سيكون له وقع السلاح النووي ضد الطاغية.

في ظهر الغد شرح لي، وهو يمشي الهوينى عبر أزقة الحي اللاتيني عن عجز في الصدر، بأنه قصد باريس للعلاج بعد أن أوصدت لندن أمامه الأبواب. وأن السلطات البريطانية رفضت منحه التأشيرة رغم أنه قد حصل على تأشيرة البلد مئات المرات من قبل، وأنه قد قضى ما يقارب ربع عمره في ربوعه دون أن يزعج السلطات بذرة إشكال. كان حانقاً ومستغرباً في ذات الوقت لهذا الموقف، وكيف أن الحكومة الليبية لم تتدخل لمراجعة هذا القرار البريطاني المجحف بحق كاتب ليبي مهدد بمرض صاعق. وقد تحدثنا/ وخططنا لآليات ومدة العلاج في فرنسا؛ البلد الذي يمتاز بباع طويل في مجال الطب بالذات.... كنّا نمر في تلك اللحظة أمام مدرسة الطب التي خرٓجت أشهر وأهم أطباء العالم، ونحن نتوجه إلى ساحة السربون لاحتساء قهوتنا أمام أبواب هذا الصرح الأكاديمي العريق، والذي تأسس ليجادلنا، نحن أهل الحضارة العربية "المحتضرة".

كان البرد قارصاً في نهاية العام، اجتاح باريس دون رحمة، وهو ما جعله يفكر في تأجيل مباشرة العلاج، لوقت الربيع.قلت له الربيع في القلب، والربيع أنت. وإنه كما يقول أهل كندا، حيث يقطنون في الواقع الصقيع، وليس بلاداً، بأنه لا يوجد فصل غير مناسب، ولكن هناك ملابس غير مناسبة". واستحلفته أن لا يغادر باريس إلا وقد لوى رقبة هذا المرض الكافر، وحتى أعود وألقاه بوسع المكان والزمان. وكنت مضطرة لمغادرة باريس لتأمين إجراءات الحماية للبطلات السوريات المشاركات بشهاداتهن في الفيلم، قبل أن يتم عرضه على القناة الفرنسية الرسمية الراعية. وتواعدنا على لقاءات أطول وأجمل في رحاب مدينة النور والثقافة التي فتحت له ذراعيها بترحيب دافيء رغم شدة البرد، لكنني فؤجت، وأنا أنتقل عبر الحدود السورية برسالة منه تقول:

"الحقيقة بعد أن أكملت مراجعاتي مع الطبيب، قررت الرجوع مع الأسرة إلى مصر والمجيء في وقت أكثر ملاءمة بإذن الله. ولهذا رأيت إخبارك بذلك. كما أردت أن أقول لكِ إن مقالاً في الباب الأسبوعي الذي أكتبه صدر يوم الثلاثاء الماضي، يحمل المقال الذي كتبته عن الفيلم، وموجود نصه في صفحتي في الفيس بوك. ونبقى بإذن الله على تواصل. وأريد تذكيرك بالأخ المنتج الذي يريد أن يقرأ أعمالي الروائية باللغة الإنجليزية، فإذا كان مازال على رأيه أستطيع إرسال بعضها إليك عبر الإيميل. مع خالص التحية والتقدير من أخيك أحمد إبراهيم الفقيه".

ترك أحمد إبراهيم الفقيه باريس، وترك العلاج،... ثم تركنا... لحظة الولوج لزمن الربيع، لحظة أن "نبه النيروز في غسق الدجى أوائل زهر كن بالأمس نوما"، وكأنه كان يقصد أن يخلف موعده مع زهر الرمان، ورائحة الحنة، وتلون أشجار اللوز والمشمش بالبياض كما يحب. أن يخلف موعده مع ربيع الغضب الباريسي، أن لا يعانق دفق السترات الصفراء يفترش الشانزليزيه التي عشق التسكع على أرصفتها.. كأنه تعمد أن لا يدفع ثمن فنجان القهوة الذي وعدني به أمام نوتردام بعد أن شاهد احتراقها المريع..... كأنه لا يريد أن يراني مرة أخرى في باريس؟!! كأنه اختار التحرر من ثقل الجسد، وقد أنهكه التعب والانتظار وخذلان الأمة ...

يبقى أن أهل السينما في فرنسا لا زالوا جادين بشأن إنتاج أعماله، تلك الحبلى بذخائر وجع وسجع من بلاد أحبها ولم تنصفه.