Atwasat

الموقف النقدي والموقف الحيادي

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 05 مايو 2019, 01:39 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

لعل أرسطو هو أول من عالج، نظريا، مسألة الثنائيات المتناقضة. حين أنشأ في منتصف المسافة بينها حدا متينا عازلا يحول دون احتكاكها. إذ في باب الفضائل جمع الفضائل المختلفة تحت تعريف جامع مانع يحددها على أنها "وسط بين رذيلتين". ففضيلة الشجاعة، مثلا، تكون وسطا حاجزا بين رذيلتي التهور والجبن.وإذن فالرذائل، على خلاف الفضائل، تتناقض وتقصي بعضها. لكن الفضيلة المتوسطة تقصي الرذيلتين المتنافيتين. أي أن مبدأ الإقصاء هنا يظل قائما معنا.

ورغم أن أرسطو يستعمل حد التوسط والوسطية هنا، إلا أن الفضائل لا تقف موقفا محايدا بين الرذائل، وإنما تقف من ثنائياتها المتضادة موقفا نقديا يسفر عن مركب جديد. إنه موقف جدلي بامتياز، على غرار الجدل الهيجلي والماركسي. حيث تكون لدينا أطروحة ونقيضها (= نفيها)، ثم المركب المتطور الجامع بينهما. أي أن هذه الفضيلة (= هذا المركب) لم يكن ليوجد لولا وجود الرذيلتين المتعارضتين. وهذا ما يعرف بنفي النفي.

في الحياة العامة ينتهج عدد كبير منا (خاصة في الأمور التي لها مساس مباشر أو غير مباشر بعواطفنا) نهجا ثنائيا حادا تغيب فيه معظم ألوان الطيف ولا يتبقى لدينا سوى اللونين الأصليين الأسود والأبيض. أي أنه يطلب منك أن تكون مع أو ضد هذا الأمر أو ذاك، أو هذا الطرف أو ذاك، ولا يقبل منك أن تكون ضد الأمرين أو الطرفين معا. وهذا يعني أنه لا يقبل منك أن تنتهج نهجا نقديا، أو ناقدا، قد يؤدي بك إلى رفضهما معا، باعتبارهما رذيلتين متعارضتين. كأن تكون ضد عصابتين مسلحتين تتقاتلان بغرض السيطرة على تجارة المخدرات. أو فصيلين مسلحين في حرب داخلية (وليس أهلية) يحتربان من أجل السيطرة على السلطة في حد ذاتها، دون وجود خلاف بينهما حول شكل الدولة وطبيعة الحكم.

رفض الأمرين أو الطرفين، وفق منهج نقدي، ليس موقفا حياديا أو وسطيا. فالمنهج، أو الموقف، النقدي شيء، والموقف الحيادي شيء آخر.

وليس ضرورة أن يؤدي الموقف النقدي إلى رفض الطرفين، بل كثيرا ما يؤدي إلى الوقوف إلى جانب طرف منهما ودعمه وتأييده.

ذلك أن المنهج النقدي منهج موضوعي ينبغي أن ينتج عنه موقف مسؤول. لذا لا يمكن لي، وفق المنهج النقدي، أن أكون ضد الغزو الأمريكي لفييتنام وضد الفييتناميين المقاومين له، وأن أكون ضد الميز العنصري في روديسيا (= زمبابوي الحالية) وجنوب أفريقيا وضد نضال المواطنين الأفارقة للتخلص من هذا الوضع. أو أن أكون ضد الوجود الصهيوني الغاصب لفلسطين وضد نضال الفلسطينيين ضد هذا الاغتصاب، وضد حكومة بورما في قيامها بعمليات تستهدف إبادة مواطنيها من المسلمين وضد هؤلاء المسلمين. موقفي النقدي يقتضي مني أن أكون مع المقاومة في الأمثلة المذكورة جميعها. أي أن المنهج النقدي لا يساوي بين الجلاد والضحية، كما يقال. المساواة بين الجلاد والضحية دعم صريح للجلاد.