Atwasat

الدولة المدنية! هي في مكان آخر

سالم العوكلي الثلاثاء 30 أبريل 2019, 01:47 مساء
سالم العوكلي

يقع المنافحون عن الدولة المدنية في خلط واضح حين يضعون الدولة المدنية في مقابل الدولة العسكرية نتيجة لسوء الترجمة أو للتأثر بالدلالات الشعبية لهذه الاصطلاحات (عسكري عكسه مدني في الثقافة الشعبية) لكن هذا المصطلح أوروبي، وجاء في مقابل «الدولة الكنسية»، كنتيجة لتطورات بنيوية حدثت في القرون الوسطى في مجالات الاجتماع والاقتصاد والسياسة...إلخ. ومن أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة.

كما أنها لا تعادي الدين أو ترفضه، لكنها ضد استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية. وهذا الخلط، أو التلاعب المقصود أحياناً بالمفاهيم والمتاجرة السياسية ما يجعل فزاعة البعض التي ينصبونها ضد الجيش كونه يشكل تهديداً للدولة المدنية، بينما ما يعتقدون أنها دولة مدنية مهددة في طرابلس قائمة على تحالف تنظيمات ومجموعات إسلاموية «تخلط الدين علناً بالسياسة» وتضرب الدولة المدنية أو الحلم بها في مقتل، وما يمثله هذا التيار هناك من مفتٍ للديار يلقي فتاواه بالجهاد ضد الجيش الذي يمثل ركناً أساسياً من الدولة المدنية، وهو الذي أفتى بتحريم انتخاب العلمانيين في أول انتخابات بعد فبراير، ويمثله أيضاً تنظيم جماعة الإخوان المتحالف مع الجماعة الليبية المقاتلة، النموذج الأكبر لخلط الدين بالسياسة الذي يهدد جوهر الدولة المدنية، إضافة إلى التنظيمات الأخرى المتطرفة التي تقلد بعض شيوخها وأمرائها مناصب حساسة في المؤتمر الوطني وحكوماته، ومعظمهم عائدون من حرب أفغانستان تكفر عقيدتهم مصطلحات الدولة المدنية مثل الديمقراطية أو المواطنة أو دولة القانون أو المجتمع المدني، ولا يخلطون الدين بالسياسة فحسب بل يجعلون الدين هو السياسة عبر مطالبهم جميعاً بتطبيق شرع الله أو نظام الخلافة الذي هو ضد مفهوم الدولة المدنية جذرياً، ووقع للأسف في هذا الخلط بعض المثقفين والكتّاب الليبيين المهمين، الذين استقوا ذعرهم من الدولة العسكرية من تجربة الأربعين عاماً للنظام السابق، وكرههم لمصطلح العسكري نابع من كرههم الشخصي لشخصية القذافي ذات المنشأ العسكري، مثلما ما زال يتوجس البعض من اللون الأخضر لأنه شعار القذافي، أو من مفردة ثورة وثوري لأنها الصفة التي تبناها طيلة حكمه، وهذا التوجس يجعل من الانفعال أو ما ترسب من عُقَدٍ بعد التجربة السابقة هو الذي يشوش التفكير الموضوعي ويؤدي إلى نوع من الخلط بين المفاهيم والمصطلحات، وفي الحقيقة حتى هذا التوجس ناتج عن خلط آخر يتعلق بالفكرة الدارجة التي تعتبر نظام القذافي نظاماً عسكرياً بالصيغة التي تتمكن فيه المؤسسة العسكرية من كل مفاصل الدولة كما حدث في بعض دول أمريكا اللاتينية مثلاً، لكن القذافي الذي توقفت ترقياته عند رتبة (العقيد) كان يطرح نفسه كمثقف أو مفكر أو ثائر أبدي، له تصوره للدولة المدنية الجماهيرية، ومنذ البداية قوض المؤسسة العسكرية وهمشها ليصبح جندي مستجد في المثابة الثورية في المعسكر أقوى من آمر المعسكر ذي الرتبة العالية.

والذي حصل أن بنية هذا النظام تحولت إلى ما يشبه بنية الدولة الدينية (بكل ما فيها من يقين وورع وشعائر) حيث مثلت فيها شخصية القذافي ما يشبه نظام ولاية الفقيه، ومثلت فيها خطاباته ما يشبه الفتاوى التي يلقيها وعلى المريدين تنفيذها فوراً، كما استخدم النظام في أدبياته مفردات التيارات الدينية نفسها، فكان يطلق على خصومه السياسيين وصف «المرتدين» ويسمي مقر لجانه الثورية «المثابات» والدروس التي تعطى فيها «دورات عقائدية»، ووصف صراعه مع الغرب بالجهاد ومقاومة الصليبية، إضافة إلى دعمه للثورة الدينية في إيران ضد حزب البعث العراقي، بينما النظم العسكرية التقليدية حاولت أن تذهب نحو مظاهر الدولة المدنية عبر تأسيس حزب سياسي يرأسه الحاكم الذي وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري ويصوغ دستوراً تعددياً في الظاهر، وأن يجري انتخابات (شكلية أو مزورة) للتمتع بالشرعية التي تشترطها الدولة المدنية (كما حدث أو يحدث في الجزائر وسورية والسودان واليمن وموريتانيا).

بمعنى أن الحكم العسكري قابل لأن يقع تحت ضغط الدولة المدنية ومطالبها، بينما الدولة الدينية لا أفق مدنيا لها لطبيعتها البنيوية المستمدة من الماضي السحيق، وربما هذا الأمر هو الذي لا يجعلني على حياد تجاه الصراع بين الجيش وبين ميليشيات الإسلام السياسي، لأني حين أقول إني ضدهما فهذا يعني الفرار إلى برج عاجي عادة ما يغري المثقفين الحالمين بالركون إليه تحت ضغط اهتمامهم الجمالي في انتظار أن تقوم الدولة المدنية ثم يهبطون إلى جنتها، أعرف أن الطريق إلى هذا الحلم طويل وليس سهلاً، لكن لا أملك خياراً سوى أن أسير في هذا الطريق المفضي إلى هذا الحلم مهما تعرج وامتلأ بالعراقيل، ولا أسير في طريق ينأى بنا أو يفضي عكس هذا الحلم الممكن جداً، والخيار الرومانتيكي الأسهل دائماً أن أقول إنني ضد الاثنين وأهرب إلى شرفة الترف الفكري الذي يريد كل شيء أو لا شيء، وعموماً هذا أسهل الخيارات في أوقات الأزمة التي تحتاج منا مواقف واضحة حتى وإن كانت لا تخلو من المغامرة، فمثلاً لا يمكنني أن أرفض القذافي وأرفض في الوقت نفسه تدخل الناتو للتخلص من نظام القذافي، لأنه خيار عدمي، جميل ومثالي يليق برسالة الفن، لكنه لا يمت لما يجري فوق الأرض بصلة، موقف مناسب للسرد الروائي لكنه غير مناسب لسرد التاريخ وفصوله المتتابعة، فحركة التاريخ تخبرني أنه لولا طغيان القذافي لما حلقت طائرات الناتو في سماء ليبيا، ولولا طغيان صدام وحماقاته لما دخلت العراق حروب الخليج المتتابعة حتى سقطت تحت الاحتلال، لأنها علاقات سببية تؤكدها علوم مثل الرياضيات والفيزياء وبعيداً عنها يحلق الفن بتهويماته وخيالاته الجميلة، ومن جانب آخر انطلاقاً من وعيي بأن أعتى الدكتاتوريات على مر التاريخ لم تتزحزح إلا بمتغيرات دولية جذرية أو تدخلات خارجية أو حروب أهلية.

مع ملاحظة أن أعتى الدكتاتوريات في المنطقة لم تكن عسكرية بالمعنى الأمريكي اللاتيني، لكنها كانت تعمل في ظل أحزاب عقائدية وسرديات أيديولوجية مفرطة في يقينها مثل (حزبي البعث في العراق وسورية) أو بقية الأحزاب القومية (بشار الأسد طبيب عيون وحاشيته من النخبة السياسية المدنية المنتمية للبعث) وكان جهاز هذه الدكتاتوريات يتشكل من المدنيين والتكنوقراط المعتنقين لأيديولوجيا تلك الأحزاب، وهي أيضاً في بنيتها تشبه منظومة الدولة الدينية التي لم يكن بإمكانها أن تفضي إلى دولة مدنية، كما حدث مع النظم العسكرية فعلاً في أمريكا اللاتينية، ولعل ما حدث في الجزائر، العالم 1992، من قبل الجيش الذي أحبط مشروع قيام دولة دينية في الجزائر حين نجح التيار الإسلاموي المتشدد في الانتخابات بدغدغته لوجدان الناس، واستغلاله لنسبة الفقر الكبيرة، خير دليل على أن الجيش وقتها حمى مستقبل وأفق الدولة المدنية التي يسعى الآن مجبراً لتأسيسها في الجزائر استجابة لضغط الشعب الذي خرج للشارع ضد حكم العسكر أو كما يحدث الآن بالضبط في السودان، وهي مخاضات مهمة، وليست سهلة، ولن تؤتي ثمارها بسرعة، لكن لا يمكن لها أن تتم في قلب دولة دينية مثل إيران، أو أفغانستان فترة حكم طالبان.

من هذا المنطلق حددت موقفي منذ أن نشرت مقالة في شهر مايو 2011 بجريدة ميادين بعنوان (احذروا الفاشية الثالثة) أحذر فيها من الإسلام السياسي وجماعة الإخوان التي بدأت تسيطر وقتها على المجلس الانتقالي، وبدأت سياستها في التمكين، وهم من اشترطوا على رئيس المجلس الانتقالي أن يعلن ضمن خطاب التحرير النية في تطبيق شرع الله مقابل تخليهم عن السلاح.

من واقع قراءتي لتاريخ النظم الدكتاتورية (عسكرية أو مدنية) قلت رأيي، ومن واقع هذه القراءة أنحاز لمعركة الجيش الليبي ضد مجموعات التيار الديني المسلحة (دون أن أتخلى عن نقد المؤسسة العسكرية ونقد بعض تحالفاتها المرحلية أو أخطائها)، لأني لا أخلط بين الجيش كضرورة للدولة المدنية وبين الخوف من عسكرة الدولة، مدفوعاً باعتقادي أنه بعد الربيع العربي، وبأن ما يحدث في الجزائر والسودان، يؤكد أن زمن النظم العسكرية أو حكم الحزب الواحد ولُى وأصبح طي التاريخ، ويقول إن الشعوب حين تعي حقوقها وتحتشد في الشارع هي الأقوى في المعادلة، وأن الدولة المدنية لا تتحقق عبر الشعارات أو بيانات التغيير أو وعود الساسة الكاذبة، أو صناديق الاقتراع فقط، لكنها عبر وعي الناس بها وبقوة الشارع حين يكتظ بهم، وكل من يحاول أن يعيد عقارب الساعة إلى الخلف في ليبيا، شخصاً كان أو تنظيماً، عليه أن يدرك أنه لن يكون أقوى من نظام القذافي المدجج بالسلاح والمليارات والدعم الدولي والمطبلين الذي بناه خلال 40 عاماً وسقط فعلياً في 4 أيام، لكن ما حصل بعد ذلك أن التيارات الدينية هي التي عسكرت الثورة وانحرفت بها باعتبارها منظومة من جنس النظام نفسه، وكلتاهما تقدس العنف كوسيلة للتغيير أو الدفاع عن السلطة.

وإذا حدثت المخاوف التي أستبعدها ـ لأسباب ذكرتها ــ حيال عسكرة الدولة ولم يخرج الناس إلى الشارع مطالبين بالدولة المدنية فإنهم لا يستحقونها بعد وليسوا جديرين بها، لكن ما أنا واثق منه أن الدولة المدنية لن تقوم في ظل الميليشيات أو مع خلط الدين بالسياسة.