Atwasat

احتراب أنف بينوكيو

نورالدين خليفة النمر الأحد 28 أبريل 2019, 11:47 صباحا
نورالدين خليفة النمر

يغْمُض المشهد التنازعي الليبي الذي هو في أساسه غامض الجذور والمآلات، ويتفاقم لاتفهمّه من المتابعين له ليبيين وعربا وأجانب: كتاباً ومحللين وإعلاميين وساسة يفترض تنويرهم بالرأي، والتفسير، بينما واقع النزاع لايفهمه إلا المثقفون العضويون وهم من النخب القلّيلة التي عنيتها والتي هي اليوم مهملة، ومغيبة عن المشهد الإعلامي الليبي المأسور بالأطماع، وخفة الكائن، وهشاشة أنانيته التي هي محلٌ للاختراقات والتلاعبات الإقليمية التي منذ عام 2012 إلى اليوم تؤجج كما كتبت وبيّنت في مقالي السالف: "حرباً لاعيون لها“..

تلزمني متابعة القضية الليبية بالكتابة كالتزام منزه عن غرض الدُنيا وعرضها، أن أطلع يوميا على مقالات الرأي في صحافة الدول الضالعة بشكل ما في الأزمة الليبية. من الصحافة العربية اللندنية الحياة التي تراجع مستواها بعد توّقفها عن الصدور ورقياً، والشرق الأوسط التي تستكتب في الشأن الليبي كتاباً جلّهم مصريون لايفقهون في في ليبيا شيئاً، ضمنهم كاتب ليبي مغمور يكتب أسبوعياً مقالاً يتبنى فيه موقفا أحاديا ومنحازاً ويخصّصه لنقل وجهة نظر مُسمى الجيش الليبي وبرلمانه العاطل عن العمل في طبرق في أقصى الشرق المتاخم للحدود المصرية ـ الليبية .

توخيت من الصحف المصرية ،ألَّا تكون صحف الحكومة كالأهرام والجمهورية. فانتقيت الموقعين الصحفيين: "الشروق" و"المصري اليوم" الذي نشر أربع مقالات، كلها جافت الحقيقة، وعبرّت عن عدم دراية بالقضية الليبية، أزمة لها جذور في التاريخ الحديث لمابعد الاستعمار ونشأة دولة الاستقلال، بل تمادت في اللامبالاة بجرحها النازف بل إن أحدهم ودون مُراعاة للآلام الليبية ترّحم على دكتاتور ليبيا المُسقط بثورة الشعب الليبي عام 2011. وآخر وصف حياة الليبين في عقود الدكتاتورية الفوضوية الأربعة الكابية بتمامها فردوساً ليبيا مفقودا اليوم .

المقالات الأربعة، كرّرت الطحين المعتاد في التمشي مع الرغبة السياسية العليا في اصطناع وهم الجيش الوطني الليبي وشرعنته، وهيكلة الدفاعيات المضادة له في العاصمة الليبية، حسب رؤيتها للأمن الوطني والجماعات الدينية المعادية؛ بل تبرير حملاته الحربية، التي شابتها خروقات في قانون الحق الإنساني وأن هذا الجيش بماهو عليه من مناقص هو الجيش الذي يوحّد ليبيا ويقضي على حكومة طرابلس التي تؤوي الخطر على أمن مصر المتمثل في الأخوان المسلمين المصريين وأعوانهم ورعاتهم الإقليميين، دون حساب البعد الجغرافي الذي يفصل مصر عن قيادة مسمى الجيش الوطني في الرجمة أزيد من1000 كيلومتر، والرجمة عن العاصمة طرابلس 1000 كيلومتر أخرى.

إلا ان مقالاً بعنوان: مصر وليبيا.. وحلقة النار! تمادى كاتبه متكلماً باسم الدولة المصرية وكأنه ناطقها الرسمي. وعلى عادة حكوية المقاهي عن الحرافيش ذكر أنه كان ضمن مجموعة من الصحفيين للقاء دكتاتور ليبيا المُسقط بالثورة الشعبية 2011 الذي نصب عام 2002 كما ذكر خيمته الشهيرة فى قصر الاتحادية، وأنه وجد نفسه وجها لوجه معه، ورغم أنه لايفهم لهجته وخشى طول لسانه وانفلاته، إلا أنه سأله: "ليبيا دولة غنية جداً وتشتري أسلحة بالمليارات لماذا لا يوجد جيش نظامى موحد وقوى..؟“ فأجابه وقد بدا في رأيه عاقلاً بأن الليبيين مجتمع قبلي وأنه يخشى أن يذهب السلاح لأيادٍ خطأ وتتشكل ميليشيات تحارب بعضها مثل لبنان".

جواب الدكتاتور الليبي المُسقط عام 2011 يستطيل بأنف بينوكيو ليكذب على جيش دولة الاستقلال 1951 ـ 1969 المؤسس على الوطنية والكفاءة، وليس القبلية والجهوية، ويقول الصدق المتطابق مع نيّته فيما يتعلّق بقتله لمؤسسة الجيش الليبي واقعياً بهزيمته في حرب تشاد ومعنويا بإعلان قيام نظريته الفوضوية فيما سمي بالشعب المسلّح وهو ما بيّناه في مقالينا بصحيفة الوسط "جيش العسكر سوسة، وسوسيولوجيا إهمال الجيش"

تلجأ ذهنية التبرير إلى اصطناع غير الواقع، بديلاً عن الواقع الذي ترفضه؛ الأسوأ أن تلجأ ذهنية التبرير هذه إلى اصطناع غير الموجود، والأنكى أن تفرضه دول ضالعة في أزمة شعب أو بلد كليبيا تعاني من اصطناعات لمؤسسات غير موجودة بل محض أوهام أبرزها وجود جيش وطني، هو محض تلفيق من اصطناعات مخيال غير الموجود الليبي، في الشرق الليبي المتوّهم، ومن المُسمّى قائده، والمتوّحد مع رغبته العسكرتيرية في إعادة ليبيا، وإن بطبعة مختلفة إلى حدٍّ ما، إلى ما قبل الثورة الشعبية عام 2011، والجيش في هذا السياق الوهمي يظهر أسطورة تداعب أمنية الأعمى، في أن يحظى على قفة من العيون تعوضه عن عماه.

أنا ككاتب أعيش واعيا للمجتمعية والثقافة لمايقارب الثلاثة عقود في ألمانيا التي تترأس بعتثها جلسات مجلس الأمن هذا الشهر يؤسفني أن يكون أنف كذب بينوكيو مستشاراً يقدّم معرفة مغلوطة عن ليبيا في ظرفها الشائك لساسة الدولة الألمانية التي تخضع للوبي المصالح الاقتصادية بما درجت عليه طوال الأربعة عقود من الدكتاتورية الليبية أن تصدّق الأكاذيب .

اصطناع غير الموجود حالة وهمية مدّعاة، قد أتبتثها مؤخراً دراسات علمية بأن الكذب يعمل على زيادة ضغط الدم؛ مما يؤدي إلى تضخم الأنف، وهو ما يُعرف بـ "تأثير بينوكيو“ الذي كانت استطالة أنفه في رواية إيطالية للصبيان تكشفه، عندما يدّعي فيكذب.