Atwasat

هموم تحملنا إلى السماء

د. مها المطردي الخميس 25 أبريل 2019, 01:31 مساء
د. مها المطردي

يعتقد «نيتشا» أن معنى الحياة قاس ورهيب.. لدرجة تُعجزنا عن تصوره ولا حتى التعايش معه.. لذلك نكون دائماً في حاجة لأوهام تواسينا وتخفف عنا هذا العبء..

أستطيع أن أرى هذا بوضوح في وطني.. الذي أصبح كل شيء فيه مؤلماً.. أن تكون هلكت فهذا شيء مؤلم.. وأن تكون ناجياً فهذا شيء أكثر ألماً.. أن تكون مُهدداً بالفناء في وطنك.. أن تكون الراكض لكل أرض ..المقذوف في قعر الجحيم.. الواقف خلف كل باب وطارق لكل نافذة.. طالباً قوتك وكرامة لك أمام أطفالك..

أن يكون في كل بيت قطعة من الروح مفقودة.. فليس بالإرهاب فقط نفقد الأرواح.. الهموم أيضاً تحملنا للسماء.. غابة محاطة بالخوف.. مليئة بأشجار مرتعدة.. تبحث لك عن موطئ قدم في أرض تاريخك وتاريخ أجددك.. تتمسك بشخصيتك العتيقة.. كعمر الفخار.. وسخاء القمح.

نحن نحتاج إلى درجة قصوى من الأوهام لنُجمل المشهد.. وأن نتخيل مستقبلاً أفضل لنا ولأجيال من بعدنا.. نحتاج إلى جهد مُضنٍ لكي نطمس ذكرياتنا المحزنة.. ولتتحول إلى سطر مشطوب في حياتنا.. كل هذا حتى نستطيع أن

نعيش يوماً إضافياً.. وأن يمر الزمن علينا بشكل ما.

لم يتبق لنا إلا الذكريات.. وزخم مشاعر.. وفوضى أفكار.

جسد جميل ذابل لشبابنا.. أرواح جسورة أنهكها الزمن.

جمال لم يكتشف نفسه.. أغنيات فقدت ذروتها..

ضحكات جميلة توترت في منتصفها.. والابتسامة قطعها الخوف.. وأيام الطمأنينة رحلت دون أن يلاحظها أحد.

وطني لوحة بهية.. أفسدها لون قسوة.. ووضعت في غير موضعها..

فانشغل الذكاء المتقد فينا بالتوافه.. وأتى الحزن إليه قبل موعده..

الشعراء الغافلون عن شعريتهم فقدوا حروفهم.. وسُخط التائهون منا في شكل حكماء..

الكآبة لاحقت الناس في أزمنة يفترض أن تكون هي الجميلة.. والأمل لم يتبق ما يرجى قدومه.. وخسر الشجعان أرواحهم.. وقامروا بحيوات عظيمة.. من أجل أفكار شديدة السخافة..

رثائي لكل فاتن أخذه الجهل.. لكل أم لطمت.. وكل حبيبة كُسرت.. وكل طفل يُتم.

في وطني.. امتلأت أيامنا بالحزن المتنقل من بيت لآخر.. واتخذناه بديلاً للحب والفرح..

لقد تغيرنا لنصبح أكثر شراسة وافتراساً لبعضنا البعض.. أكثر رضوخاً للآخر على مرمى الأرض.. تغيرنا كي نستطيع أن نعيش في ظل إدراكنا الجديد للعالم.. تغيرت صورتنا الحالمة عن أنفسنا لصورة أخرى.. ربما لا نود أن نراها ولا أن نعترف بإمكانية وجودها فينا..

رفضنا لقسوة واقعنا يعني أن نستخدم المزيد والمزيد من الخيال والأوهام التي تبعدنا عن واقع الحياة ومعناها الحقيقي.. فنعيش كالبلهاء في دروب العالم.. ننصدم كل يوم بكل شيء.. ونستجدي المساعدة ونبكي على ما كان يجب أن يحدث ولكنه لن يحدث أبداً..

لم يتبق لنا إلا أن نحقق انتصاراتنا الصغيرة.. ونتذوق طعم الهزائم بلذة مرار القهوة. ونعيد ذاك الحزن الدفين الجميل.. أو أن نجعل قلوبنا محكومة بالأمل.. بالحب.. فهو وحده من يستحق العناء.. ولتبقى علاقاتنا بالإنسانية منتصبة.. حين يقع كل شيء.