Atwasat

عبدالرحمن بدوي .. الخروج من بنغازي

سالم الكبتي الخميس 18 أبريل 2019, 01:08 مساء
سالم الكبتي

ذلك الشتاء 
بعد إعلان استقلال ليبيا بأسبوع نشر د. عبدالرحمن بدوي أستاذ الفلسفة في جامعة فؤاد الأول التي أضحت جامعة القاهرة فيما بعد مقالا في صحيفة اللواء الجديد الصادرة يوم الإثنين 31 ديسمبر 1951 عنوانه (ليبيا وليدة المناورات الاستعمارية) أكد فيه أن الدولة الليبية الناشئة ولدت مشوهة الاستقلال مقضيا عليها منذ البداية. وأنها ستكون تحت الاحتلال البريطاني والأمريكي والفرنسي ثم ناشد في نهاية مقالة رجال الجامعة العربية القابعين قريباً منه على ضفاف النيل عدم قبول ليبيا عضواً في تلك الجامعة حتى لا تزيد للنفوذ البريطاني ممثلاً جديداً في رحابها!!
أستاذ الفلسفة لم تستغرقه السياسة في الواقع إلا بعض المرات. لم تكن مقالاته السياسية أكثر من مقالاته وهمومه الفلسفية. اختير بعد يوليو 1952 عضواً في لجنة الخمسين التي كلفت بوضع دستور 1954. كان ممثلاً للحزب الوطني الجديد مع زميله الآخر يواقيم غبريال . فرغت اللجنة من أعمالها في أغسطس 1954 وصاغت مشروع الدستور وكان مصيره صندوق القمامة في خاتمة المطاف! 
وما كان يدري د. بدوي أنه سيصير بعد ستة عشر عاماً من ذلك المقال.. أستاذاً مرموقاً في الجامعة الليبية في بنغازي التي شهدت إعلان الاستقلال الليبي ويظل بها إلى غاية أبريل 1973. كانت الأقدار قد رمته خارج مصر وعاش فترة في باريس مدرساً في السربون بفعل ظروف عديدة لم ترق له مر بها التعليم العالي في بلاده مصر عقب يوليو 1952 كما ذكر بنفسه في سيرة حياته. 
في قرية شرباص بمديرية الدقهلية الواقعة على الكيلو 196 عند النيل ولد (عبدالرحمن بدوي بدوي محمود) فجر اليوم الرابع من فبراير 1917 في أسرة ثرية تمتلك الأطيان والفدادين الزراعية.. وكان ثامن أخوته وأخواته لأمة. والخامس عشر بين أبناء الوالد ليصبح مجموع تلك الأسرة واحداً وعشرين ولداً. حصل على ليسانس الآداب من قسم الفلسفة بالجامعة المصرية عام 1938 وعين معيداً بها ثم حصل على الماجستير من الكلية نفسها في نوفمبر 1941 عن رسالته (مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة) بتقدير ممتاز. كانت لجنة المناقشة مكونة من الشيخ مصطفى عبدالرازق والدكتور طه حسين والدكتور إبراهيم مذكور. وتمت مناقشتها باللغتين العربية والفرنسية. 
في شهر مايو 1944 وكانت الحرب العالمية الثانية تدق الأبواب والجدران باتساع الدنيا نال درجة الدكتوراة في الجامعة ذاتها عن رسالته (الزمان الوجودي) وناقشه أيضاً في موضوعها إضافة إلى مصطفى عبدالرازق وطه حسين الأستاذ باول كراوس. استهوته الوجودية كثيراً وهام بها هياماً منقطع النظير وصار له تلاميذه الذين ينهجون نفس المذهب. عمل في التدريس بالكلية ورأس قسم الفلسفة في جامعة عين شمس. وبعد انتهاء مشاركته في لجنة الدستور عام 1954عين ملحقا ثقافيا لمصر في سويسرا. ثم انقطع عن التواصل مع المناصب الرسمية وتفرغ للعمل العلمي في مصر وانتدب لاحقاً للتدريس في السربون عام 1967. أضحت باريس ملاذا ومستقرا له. المعالم والمقاهي والصحف والنقاشات والجدل . استغرقته باريس بالكامل. فيما تواصلت جهوده العلمية فوضع أكثر من ثمانين مؤلفا ما بين تحقيق وترجمة وكتابة معظمها في الفلسفة.
وصل د. بدوي إلى بنغازي في سبتمبر 1967. ومباشرة إلى الجامعة في شارع الاستقلال. كانت تداعيات حرب يونيو لم تزل ساخنة في بلاده ومنطقة الشرق الأوسط. الهزيمة والحزن والإحباط التي تصغر أمامها الفلسفة والكلمات، وفي ليبيا أيضا التي كانت تمور بالمشاعر القومية إعجابا بعبدالناصر رغم الهزيمة.. وصدمة البعض أو خيبة الأمل المريرة التي حصلت إثر زلزال الحرب فيما أودع مجموعة من الشباب (الثائر) وعددهم مائة وستة السجن ومثلوا أمام المحكمة بتهمة تكوين تنظيم سري ومحاولة قلب نظام الحكم وكان المتهم الأول في القضية من خارج ليبيا الدكتور جورج حبش وآخرون من فلسطين ولبنان. كانت الجامعة الليبية ملتقي رائعا للحوار والأفكار والحرية الأكاديمية والأساتذة الكبار من المنطقة الذين أبعدتهم أوطانهم فلجؤوا إليها وعاشوا في رحابها. 
استهل د. بدوي نشاطه العلمي في كلية الآداب إضافة إلى اشتغاله بالتدريس في قسم الفلسفة بمحاضرة قيمة عن الحضارة العربية مساء الأربعاء 15 نوفمبر 1967. كانت ضمن الموسم الثقافي للكلية الذي حافظت على إقامته كل يوم أربعاء منذ تأسيسها عام 1955. كان ذلك الموسم (بانوراما) رائعة يشارك فيها الأساتذة القارون والزائرون وطلبتها أيضا ويتنوع ما بين محاضرات وندوات وأمسيات ثقافية وشعرية . كان ذلك اليوم من كل أسبوع يوما مشهودا للفكر والعلم والثقافة ينتظره في بنغازي جميع المهتمين بالشأن العلمي والفكري. كان يقام في مدرج رفيق الذي يكتظ إلى حافته بالحاضرين والمشاركين والمتذوقين. كانت تلك الأسابيع من السنوات فترة خصبة تلتهب بأنواع الفكر والعطاء والنقاش . لم يكن الامر أيضا يقتصر علي كلية الآداب وحدها.. فثمة أنشطة مصاحبة مثلها في كلية التجارة والحقوق والأندية الرياضية والمركز الثقافي الليبي والمصري والأمريكي.. وغيرها. كانت بنغازي.. وكانت الجامعة منذ نشأتها منارا علميا للوطن كلة وكانت احدي الثوابت التي أكدت في واقع الأمر أسس الهوية والوحدة الوطنية تلك الأيام.. مثلها مثل الجيش الليبي والحركة الكشفية. لا جهوية ولا قبلية ولا تعصب مقيت ولا أمراض أخرى.
محاضرة د. بدوي كانت أولي نشاطاته وإسهاماته في الموسم الثقافي الجامعي وأول لقاء عام يجمعه بالمهتمين والدارسين وضيوف الجامعة وقد أسهم تباعا بجهوده العلمية في تطوير مكتبة الجامعة والنهوض بمستواها وأسندت إليه مهمة اصدار مجلة كلية الآداب بعد توقف دام عشر سنوات (1958) والتي واصلت الصدور بإشرافه في عددها الثاني عام 1968فيما نشر خلالها الكثير من الدراسات والمقالات عن بعض الفلاسفة الليبيين القدامى أيام الاغريق . كما نشر مجموعة من المقالات العلمية في مجلة الحصاد التي تصدرها شركة اسو في ليبيا وأدار تحريرها محمد عبدالكريم الوافي صديق د. بدوي وخريج الدفعة الثالثة من قسم الفلسفة ببنغازي عام 1961 والذي اتجه إلى التاريخ فصار مؤرخا ممتازا بروح الفيلسوف المتوهجة. 
والواقع أن من كان وراء هذه الجهود والتشجيع وأخذ المبادرة بل والتعاقد مع د . بدوي ودعوته إلى ليبيا الاستاذ عبدالمولى دغمان مدير الجامعة الليبية في تلك الفترة الذي شهدت كلية الآداب عندما كان عميدها ثم الجامعة التي أضحي مديرها تطورا ونموا علميين وإداريين رائعين مفعمين بالحداثة والتحديث، حيث أتاح الفرص العلمية للدراسة بالخارج وكانت موقوفة لفترة من الأعوام.. وابتعاث المزيد من المعيدين والتعاقد مع العديد من الأساتذة الأكفاء من ربوع العالم في كليات الجامعة في بنغازي وطرابلس وتشجيع المواهب الطلابية ثم الشروع في تنفيذ وإنجاز مخطط بناء المدينة الجامعية في ضواحي بنغازي التي اكتمل بناؤها عام 1973 وافتتحت رسميا في أبريل 1974.. وتشاء الأقدار أن يكون مغيبا في سجون القذافي!!
قضي د. بدوي من حياته سبع سنوات في بنغازي وكان خلال وجوده أستاذا في الكلية يقوم بسكرتارية مجلسها وتدوين محاضرة ولوحظ تمتعه الهائل بحافظة قوية لكل قرارات المجلس السابقة وتنسيقة لتلك المحاضر . لم يكن كثير الاختلاط بأحد في الكلية إلا فيما ندر بينما يلاحظ عليه وحدته الدائمة في الجلوس بمفرده بحديقة الكلية أو في قاعة المكتبة العامة التي كثيرا ما يرتادها للاطلاع أغلب الأوقات والبحث في مراجعها، وكذا في القاعة التي تضمه مع غيره من أساتذة قسم الفلسفة الذي صار رئيسا له. لكنه أحيانا يقطع هذا الروتين بالتردد بين حين وآخر على مقر لجنة جمع التراث بكلية الآداب. 
كنت سكرتيرا لتلك اللجنة .أذكر بعض نقاشاته واهتمامه بتراثنا الشعبي الليبي. كان يتابع ويهتم بأغانينا الشعبية ويستمع إليها. وكان معجبا بأغنية شادي الجبل أحد رواد الغناء الليبي  (انريد نرسلك يا روح للي غالي.. تشيلي سلامي وتشرحيله حالي). وكثيرا ما وصف صورتها الفنية بطريقة فلسفية مشيرا بأنها تحوي وجودية وفلسفة وجمالا وروعة في استعمال (الروح ). ذكر هذا غير مرة وسمعته يؤكد بحضوري شغفة وإعجابه بالأغنية في المكتب وفي لقاءات جمعتنا معا بشقة د. عمرو النامي حيث كان يسكن في العمارة نفسها وربما ذكر ذلك لآخرين في مناسبات مختلفة. وإضافة إلى هذا واقترابه من التراث والفن الليبي برؤية الفيلسوف والأستاذ فثمة علاقات جمعته في بنغازي وخارج إطار الكلية مع الأساتذة علي بوهدمة وعبدالمولى لنقي وأبوالقاسم بن دادو وسليمان تربل ود. باسيلي خزام ود. مراجع الغناي ود. عمرو النامي.
أذكر أيضاً متابعته واهتمامه بما يدور في مصر من خلال الصحف التي تصل من هناك إلى بنغازي التي يستهل اطلاعه عليها بقراءة صفحة الوفيات بعناية ودقة وكأنه يتوقع موت عزيز أو حبيب هناك، وأذكر إحساسه العالي بالوقت في محاضراته وكل نشاطاته العامة والخاصة. وقد حاول نظم الشعر في مطلع شبابه لكنه استعصى عليه علي ما يبدو رغم أنه أصدر ديوانا وحيدا بعنوان (مرأة نفسي). كان شعرا جافا لا حياة فيه أو أحاسيس رقيقة أو تجاوب مع قضايا معينة. حدث ذلك في بداية الأربعينيات وتناوله سيد قطب بمقالة حادة وساخرة أيام اهتمامه بالنقد لعلها كانت سببا رئيسا في توقفه عن قول الشعر.. فأراح واستراح!!
ولم يتوقع د. بدوي وغيره أن يحدث له ما حدث في ابريل 1973. كان الرجل غير معني بالشؤون الداخلية في ليبيا من قريب او بعيد وقد وصل إليها بتعاقد رسمي للعمل استاذا بجامعتها لكن خطاب زوارة للقذافي تلك الأيام طاله مباشرة. تحركت السلطات الأمنية بناء علي ما ورد في أحد نقاطة من تصفية المرضي وأعداء الشعب وأنهم لا يستحقون الحرية وتعقبت كل أصحاب الرأي والمثقفين ومن لديهم قيودات أمنية قديمة كانت طي النسيان منذ فترة اضافة إلى الملاحقة الجديدة والتفنن في كتابة التقارير والوشايات ووضعتهم جميعا رهن الاعتقال وكان من بينهم د. عبدالرحمن بدوي. وكان ذلك خطأ جسيما في حقة باعتباره يتمتع بحق الرعاية والاستضافة وقد وقع اعتقاله ظهر الأربعاء 18 أبريل 1973 وأطلق سراحه يوم السبت 5 مايو 1973 بتدخل من الرئيس أنور السادات وأحدث ذلك ردود فعل قاسية لدى تلاميذه في مصر. فتشت شقته وربما صودرت منها بعض الأوراق والكتب وقد تردد بأن تقريرا من تلميذ لبدوي في قسم الفلسفة كان يتعامل مع وحدة الاتحاد الاشتراكي بالكلية هو الذي قادة إلى المعتقل واعتبره من أصحاب الفكر المنحرف ودعاة الوجودية والإباحية في المنطقة.. أستاذ يشي به تلميذه. تلك سمات عصر القذافي. ظل د. بدوي في أحد مراكز الشرطة وحقق معه وسئل عن مستواه العلمي ثم نقل إلى سجن الكويفية شرقي بنغازي حتى خروجه.
والواقع أن الجامعة الليبية وقفت موقفا كريما وشجاعا معه بتسديد حقوقه كاملة وتسفيره وتوديعه بطريقة لائقة وهو أمر يحسب لمسؤوليها والعاملين بها ذلك الوقت.. د. عمر التومي الشيباني رئيسها ود. الهادي بولقمة وكيلها وغيرهما من الموجودين بالجهاز الإداري الممتاز في الجامعة.
بعد مغادرته ليبيا عمل د. بدوي في الكويت وإيران وأقام من بعد في فرنسا وأنجز كتابين مهمين بالفرنسية هما (دفاعا عن النبي محمد) و(دفاعا عن القرآن ضد منتقديه) صدر الأخير مترجما منذ فترة قريبة. ثم عاد إلى بلاده مصر واستقر بها حيث توفي ودفن بالقاهرة في 23 يوليو 2002. كانت الذكرى الخمسون لثورة يوليو التي تقاطع معها قد حلت وتم الاحتفاء بها على مدار أيام متواصلة.
عام 2000 أنجز د. بدوي كتابا من جزءين عن سيرة حياته صدر في بيروت. كان خلاله من الغلاف إلى الغلاف ساخطا وغاضبا ومعتزا بنفسه إلى أبعد حدود الاعتزاز وشوه الكثير من أساتذته وأقرانه بدرجة فيها من بين السطور حقدا كثيرا لا يتسق وشخصيته العلمية الكبيرة ولامة العديد فيما كتبة وتناولوه بالنقد والتجريح، وقد نالت ليبيا البلد الذي رحبت به في جامعتها الكثير من هذا التشوية، ولوحظ بأنه لم يعرف الكثير من جوانب المجتمع الليبي معرفة دقيقة رغم السنوات السبع التي عاشها في بنغازي. 
.. وتلك أمة قد خلت.