Atwasat

هُمْ: فنتازية واقعية!

أحمد الفيتوري الأربعاء 17 أبريل 2019, 12:37 مساء
أحمد الفيتوري

1-
لما انتهيت من قراءة رواية (هُمْ) للكاتب وليد أحمد الدباغ، أخذت استراحة بمشاهدة محطة تلفزيونية، تبث لقطات من عرض للموضة زاه بجميلات رشيقات، لم أنتبه إلا في الختام إلى أن العارضات مختلفات كما تبين وجوههن من حيث اللون وبعض من ملامحه، لكن هذا لم يمكنني من إدراك جنسيتهن، بل انتبهت أني - وكما لاحظت أيضا جمهور العرض- لم أهتم بذلك، فقد شدنا العرض والعارضات عن أي تفاصيل وتصنيفات خارج العرض. لكن بمراجعة بسيطة تبينت أن هذا مستحدث، أن لا يلفت الانتباه هكذا تنوع من جهة ومن أخرى أن لا يشدني التصنيف.

فيما سبق ثمة ولع بالفصل والتفصيل والرسم البياني ووضع الخانات وملئها، ثم التحليل المبني على هذه المرتكزات التي تبرز التباينات الجزئية وتفصل منها النتائج الكلية.  

هذا ما أعادني إلى الرواية متفكرا في مسألة التصنيف، حيث كان النقد يلهج وينهج: نظرية الرواية المصنفة تحت بند ما من البنود المذهبية، الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة، الواقعية وما بعدها وما فوقها فالاشتراكية، رواية البطل واللا بطل ثم السيكولوجية... حتى ما بعد الحداثة. 

ليس ذلكم وحسب ما في حكم التصنيف فإن ما أشرنا إليه يقسم الرواية وما في حكمها من فن إلى خصيصتين، ما يختص بالشكل وما يختص بالمضمون أي المبنى والمعنى كما يصطلح آخرون، وكثيرا ما يأخذ هؤلاء جماليات الدلالة عن أولئك أصحاب جماليات المبنى، هكذا يعج صرح نظرية الرواية بالنظرات والعبرات التي تشتبك وتصطرع حول الرواية.

وكل هذا العجيج كثيرا ما يدور حول المسألة محاذيا النص دون أن يلجه، لكن من هذا كله ما يخرج عن السياق، فيساق في طريق ليست له طريقة حين يؤدلج النص بدواعٍ قومية فالبحث في جنسيته على قاعدة أساسها جنسية كاتبه.

2-
إن (هُمْ) للكاتب وليد أحمد الدباغ الذي هو يمني لا أعرف جنوبي أم شمالي ولا أنه صنعائي أم تعزي، البتة سيرة الكاتب لا تعوزني لإقراء ولكل قارئ قراءة، قراءة النص التي تهم كل قراءة، وفي الحال وقد كان فعل القراءة الذي إن حدث فإن النص قد حقق ذاته، وكأنما لسان حاله أنا مقروء إذا أنا موجود. هذا الوجود المتحقق كرواية أطروحته الأساس أنه رواية التي تبدو رغم كل التعريفات والتصنيفات أنها السرد الحكائي الطويل، وفي (هُمْ) نتحقق من أنها رواية لأنها سرد حكائي طويل ما يتم في صيغة سيروية فالبطل المجنون يكتب سيرته كما يفترضها لصحفي طلب منه ذلك، والراوي العليم يتخذ من طلب الصحفي تعله لكتابة سيرة مجنون، لكن الاستهلال لتعليل هذه الكتابة لهكذا سيرة يبدو حشوا زائدا يبينه السرد المتتالي بأنه من لزوم ما يلزم فلا طائل منه وإن حذف وولجنا الرواية السيروية دون ذلكم التعليل فلا جناح على الرواية ولا الراوي العليم ومن هذا هي زوائد وحشو الكاتب المهجوس بالسببية.

كما هو تزيد الباحث في جنسية الرواية التي كاتبها يمني فينسب للرواية جنسية فتابت وتصبح (هُمْ) رواية يمنية وإن لم نجد مكانا محددا للمحكي ولا زمانا فإننا نجد مفردات كـ (القات) ومصطلحات كـ (المقايل) فإن لم نكتفي فإن أسماء أمكنة كفيلة بذلك متى ما استعنا بالخرائط والتضاريس.

تضاريس الرواية الحق نفس مجنون وجنسيته إنسان مسكنه نفسه غائب عن المسكونة والساكنين فيها، والراوي في صيغة ضمير المتكلم يتدفق في سرد كما مونولوج، أما المحاورة فتتم بينه وبين كل الكائنات الحية وما لا حياة له دون حواجز. التعليل الدرامي لهذا الحال يسربه السارد عبر صيرورة البطل منذ نشأته الأولى التي تبدو محكومة في صرامة قاتمة بمحيط ميت كائناته لا معقولة، بذا بطل (هُمْ) رواية الشخصية المجنونة علته في المكان والزمان اللذين ولدا فيهما.

3-
رواية (هُمْ) مرصودة بعالم فنتازي واقعي لا فاصل فيه بين المعقول واللا معقول في تفاصيله ومجمله معا، فالبطل المجنون يعيش جنونه في عالم مجنون لا يدرك جنونه، والسارد بسلاسة يدغم هذا العالم المدغم بالجنون من حدث إلى آخر ومن حالة إلى حالة تأخذنا الرواية بوقائعها وواقعيتها وبطلها وحالة جنونه، لتكشف عن العالم المجنون الذي يعيشه ويعيش فيه البطل، حيث ليس ثمة فاصل في الرواية والسرد بين المنولوج الذي هو حوار البطل مع ذاته ومع الآخرين وبين النزر اليسير من الحوار الواقعي مع الآخرين، فكل متسق وليس على خلاف.

هوية الجنون هوية الرواية كما أنها هوية عالم فيها المكان والزمان لا معنى لهما بل الهوية لا معنى لها، ومن هذا اللا معنى يتسربل السرد من حدث لآخر ومن حالة لحالة، وعلّ هذا التسربل أربك إنشاء الكاتب فالسلاسة وطوعية حالة الشخصية جعلته في أحيان يشتبك مع النص فيعيد النسج ويكرر، خاصة الجمل التي تأتي في لحظة تفلسف وعقلنة اللا معقول. الرواية السيروية مقاربة للسيرة الذاتية ما هنا سيرة مجنون ما تمنح نفسها للكتابة دون عوائق لابد منها عند الكتابة الروائية، التي لا قانون جازما لها لكن هذا ما يعني هنا والآن أحكام النص وجمالياته التي تشدنا عن الاسترسال المخل لجماليات الدلالة.

إن جماليات الدلالة فخ يطبق على الكاتب والقارئ في كثير من الأحيان، وعليه يسهل الكتابة ويغوي القارئ هذا محل غواية التبسيط ومن ثمة الترويج، جنون (هُمْ) في أن هم ضمير الغائب عكاز الراوي ووتد السرد. هم ما لا يحاط ولا يدرك،هم الغواية ألا مدركة في النص، المطوح بها في ثنياه والمبعثرة، المفردة التي تحيل إلى (كن) وتجاورها ككائن مطلق ومقدرة مطلقة، دلالة لا حد لها أي جمال الغائب ما لا كنه له، هذه الدلالة اللا دلالة مطوح بها في النص في أضيق حيز، مفردة من حرفين (هُمْ) الضمير ما هو عنوان الرواية أول ما يلتقي القارئ وآخر ما يلتقي تتسردب من حدث إلى حالة والعكس، جماليات دلالاتها من أنها غائبة غائمة، ومهمة القارئ التأويل ما هو هنا يكون تأويلا مفرطا أي متطرفا في اختزال مخل: (الجحيم هو الأخر).

من لزوم ما يلزم الاتساق بين الدال والمدلول لكن هنا يبدو (هُمْ) دالا معلقا في سماء السرد مفصولا عن الدلالة ومكثرا من الحضور الخفي ولا يتجلي إلا كـ (مفردة) تسرح وتسوح رغم مركزيتها.

الجنون الباعث على الجنون ما يحوط بالبطل يتوكد كدلالة قوية كافية للرواية وللراوي دون هذا النتوء والإفراط فيه، دون هذا التشوه فالمريض مريض وبه عوز جلي دون داع لهذا المتخفي في (هُمْ). 

كقارئ كنت رضيت بـ (هُمْ) كاسم للرواية.

وإن انفرطت في هذه فإنها لم تفرط فيما يمنحه الجنون من الارتكان إلى الفنتازيات واللا معقول، وما منحه المحيط المعاش في جنونه واللا معقوليته وبهذا اختزل السرد وحبك ونسج بما يلزم من خيوط وخطوط في تلوين لغة تهكمية ومقتضبة وجمل سلسة نثرية لم يختطفها الشعر ما للجنون أسلس وأسهل.

ولم يسترسل الراوي العليم وبذا كان المجنون الراوي والسرد يتنقل ويتقافز مع الحالة وبها، وفي بعض الحالات يربك القارئ بالغموض الذي تلبس الحدث، فمثلا تقوم قيامة القرية على البطل الذي جاءها مدرسا معطاء بعد لقاء عابر بفتاة من القرية ويهرب البطل/المدرس لما تبلغه الفتاة بالخطر القادم ولا يفصح السرد بالسبب لكن بمكنة القارئ التعليل، وهكذا حالة يؤلها القارئ دون إفراط ولا تفريط.

إن (هُمْ) رواية سيرويه تسرد حياة شخص منذ نعومة أظافره على حد حاد من هاوية الانفصال عن محيطه الذي يعيش حالة انفصال ما يشبه (الشيزوفرينيا)، وينمو وتنمو حالة الانفصال حتى يكون (المجنون)، من يعيش محاذيا للجمع ولكنه مفرد كإفراد الجمل الأجرب، الجرب مصاب كل القطيع دون أن يدرك أحد باستثناء (المجنون) من يتخيل أنه المطارد من (هُمْ) الذين لا يدرك كنههم أحد.

(هُمْ) تؤشر ولا تفصح أو أن فصيحها فصاحة لم تدرك بعد وبيانها فادح...