Atwasat

الحلم التركي

محمد عقيلة العمامي الإثنين 15 أبريل 2019, 12:56 مساء
محمد عقيلة العمامي

سنة 2002 صدرت لي رواية عنوانها (الكراكوز) تناولت حقائق من التاريخ العثماني قدمتها بأسلوب ساخر، لأنني ما زلت مقتنعا أن ما وصلنا إليه من تخلف سببه أننا ظللنا حوالي 600 سنة مجرد كائنات لا علاقة لها بالإنسانية في مزرعة سلاطين لا هم لهم سوى جمع الضرائب وإرسالها إلى الباب العالي. لم يكن هذا، بأي تفسير، تحاملا على الإسلام، ولكن لحكم الأغوات وسلاطين لاهم لهم سوى ملذاتهم الشخصية، بالتأكيد كان بينهم قلة عملت من أجل دولة إسلامية قامت بحسب مقاييسهم وقناعاتهم، ومع ذلك لم تعمل شيئا من أجل المسلمين، في أقطار الإسلام كافة، وبصورة واضحة في ليبيا.

لقد لملم "الرجل العثماني" المريض، أوراقه وغادر ليبيا وترك ناسها عراة، أميين يصارعون البق والقمل في الليل، والجوع الكافر في النهار. تركوا ليبيا لقمة سائغة للاستعمار الإيطالي. ترك بلادنا التي حكموها قرابة ستة قرون من دون أن يتركوا بها مدرسة، أو مستوصفا، أو شارعا مرصوفا، تركوا فقط مسجد أو اثنين والسرايا الحمراء؛ المساجد عبارة عن مدافن لمن مات من ولاتهم، وسرايا طرابلس قصر حكامهم. أما في بنغازي فقد تركوا معسكرا واسعا كان حماية لجنودهم، ثم جعله الطليان ساحة لإعدامات المواطنين الليبيين العزل.

قدم لروايتي هذه الكاتب المسرحي والناقد واللغوي المرحوم عبد الكريم الدناع. تحدث عن مثالب العثمانيين وسيطرتهم على حوض البحر المتوسط وبضعة أشياء أخرى، ولكنه لم يذكر شيئا واحدا ترك للدول التي استعبدوها طوال ستة قرون. قال المرحوم عبد الكريم الدناع في تقديمه المتميز لروايتي: "هل أراد المؤلف القول إن ستة قرون من الحكم العثماني كانت مجرد "كراكوز"؟ مجرد مهزلة تتعدى حدود العقل والمنطق لتفرض العسف والجور وسمل أعين خلفاء المسلمين بأمر مندوبي السلطان العثماني..".

كانت القنصلية التركية غير بعيدة عن مسكني في بنغازي، والتقيت أحد العاملين بالقنصلية، بمحل قريب من منطقتنا، وتطور بيننا الحديث، وعرفت منه أن مترجمهم حدثهم عنها وكيف أنهم اعتبروها كوميديا سوداء، وأنهم يرون أنني تجنيت على تاريخ مشترك بين الليبيين والدولة العثمانية، غير أنني وضحت له أنه ليس تاريخا مشتركا وإنما تاريخ دولة استعمرتنا وتخلت عنا في وقت ضيق، وفوق ذلك تركتنا جهلة تماما.

كان هذا في الواقع ومازال كذلك. فماذا رأينا من تركيا خلال الستة قرون التي استعمرونا خلالها، ونرى الآن ما يقدمونه لنا لا شيء سوى مزيد الظلم والعسف والجور وجميعها تحت شعار دولة الإسلام، التي بعد أن سقطت دولتهم ظل العالم الإسلامي من دون حكومة دولة واحدة، ففي يوم افتتاح قناة السويس يوم 17/ 11/ 1869 دعا الخديوي إسماعيل عددا من دول العالم ولم يكن من بينهم دولة عربية واحدة، لأنه لم تكن هناك دولة عربية سوى المغرب، التي لم يستطع العثمانيون الأتراك احتلالها!

قبل حوالي عشر سنوات أجرت وزارة الخارجية التركية محادثات مع جامعة الدول العربية بشأن حذف عبارات عدائية ضد الدولة العثمانية (التركية) من كتب التاريخ المقررة على المدارس العربية. ولقد تولى العديد من مثقفي مصر الأحرار التعقيب والنقد لهذا الطلب، فكتب الدكتور محمد صابر عرب يقول: ".. والحقيقة أن كلمة (عبارات) هي كلمة مهذبة، لأن الخبر إن كان صحيحا فالمقصود به هو تغيير التاريخ العربي بما يحملُ من الصور السلبية عن الأتراك العثمانيين، خلال القرون التاريخية التي كان العرب فيها خاضعين للسيطرة العثمانية.." والحقيقة، وحتى تسمى الأشياء بمسمياتها لم تكن (سيطرة) بل كانت استعمارا مقيتا، فمن لا يعرف المذابح المهولة والخوازيق التي نصبت بميادين الشام، ومن يغفل نهب المقتنيات الفنية والتحف وترحيل العمالة الفنية عنوة من مصر إلى تركيا، ومن بمقدوره أن ينسى ضريبة الغلمان، التي تأسست منها الانكشارية وجواري السلطان التي كانت تفرض على الولايات الأوروبية. أما مذابح الأرمن فكانت وما تزال مصدر قلق دائم لتركيا حتى الآن.

في ليبيا، التي تركوا أهلها عزلا أمام الغزو الإيطالي، وعلى الرغم من كل ما حدث في المعتقلات الإيطالية، وما رحلوا من أبرياء إلى الجزر الإيطالية، إلاّ انهم تركوا لنا مدارس ومنازل ومستشفيات، وفوق ذلك نسبة من المتعلمين منهم من نال شهادات عالية، وكانوا رجالا أخذوا على عاتقهم قضايا استقلال ليبيا. العثمانيون لم يتركوا لنا سوى الزلابيا والمخاريق وحلوة بر الترك! وخلوة رطبة متربة وفلقة معلقة فوق حائط مبلل بملح الأرض... ولولا فقهاء ومدرسين تعلموا خلال فترة الاستعمار الإيطالي لظللنا حتى الآن حفاة عراة جهلة.. فعلوا كل ذلك باسم الدين والخلافة الإسلامية. العجيب أنهم يتعاملون معنا وفق قناعاتهم القديمة، حتى إنهم نقلوا ما وجدوه في السرايا الكبرى من مقتنيات تاريخنا.. وسبائك ذهب مصارفنا. ومازالوا يخدعون البسطاء أن ذلك من أجل قيام الدولة الإسلامية العثمانية الثانية.