Atwasat

الجزائر عند نقطة الغليان.. واحتمالات تصاعد الأزمات في المنطقة

عبد الكافي المغربي الإثنين 08 أبريل 2019, 01:10 مساء
عبد الكافي المغربي

في تحرك مخالف لكل التوقعات، اضطربت شوارع مدن الولايات الجزائرية بأصوات الاحتجاج الشعبي، وحشد فيها أنصار ثورة "الابتسامة" زخمهم الشعبي الضخم، مطالبين بالتغيير الجذري الشامل، وذلك بعد شهرين من انطلاق دعوات للاحتجاج لم تصادف مُلَّبين في آنها

وتَضِيق الجزائر منذ انقسام حزب "جبهة التحرير" وسقوط حكومة الاستقلال بانقلاب هواري بومدين عام 1965، وفشل المغامرة الاشتراكية "الهوارية"، بعهد طويل ممتد من السياسة الأحادية المضطهدة للشعب، وفساد متوحش، وأليغركية عسكرية مشكوك في ولائها للوطن، كان دأبها أن تجعل أي أمل في التغيير يتردد ويقلب النظر حتى لا يتجاوز خطوط الاتزان العقلاني.

ولسنا بمبالغين إذا قلنا أن الشباب الجزائري تجاوز حدود الواقع في تحركه غير المسبوق في مطلع هذا العام، الذي يميزه عن احتجاجات 88 ذات الطابع الإسلامي الغالب التمثيلات الحاضرة في الشارع بوفرة وتنوع شامل للأحزاب والحركات العلمانية، ومشاركة المرأة بقوة. فليس أقلنا كان يظن أن الشعب سيصمد ويصر على مطالبه حتى تميل معه المؤسسات الرسمية التي حاولت التغطية على التحركات الشعبية في أول ما كان من أمرها، وإنما رأينا أن الجزائريين كإخوانهم في السودان سيصادفون عنتا واستكبارا، وسيخلى بينهم وبين الشارع حتى تبرد عنهم فورتهم.

وبرغم أن صبر الجزائريين توج بإسقاط الرئيس الذي حكم البلد بالتزوير منذ نهاية الحرب في مطلع الألفية، فإن لنا مبررات تسند تشككنا إزاء إمكان نجاح التحول الديمقراطي في الجزائر واحتمال أن تصطف مع الجارة تونس في حماية حقوق الإنسان ودولة النزاهة، ذلك أيضا برغم أن ما أصبحنا نشهده في الجزائر من انفتاح وحوار غير مشحون يخطف منا الأنفاس.

إن المراقب لهذه الانتفاضة التي حث مصطفى عبد الجليل الجزائريين عليها في سبتمبر 2011 فلم يجد سامعين، يعرف - ويأسف لمعرفته- أنها قد لا توفق في كتابة نهاية سعيدة لفصولها، وأن كل الجهود الموجهة في حراك لم يجمعه إيعاز خارجي قد تبددها القوى المضادة والدولة العميقة التي تدعمها الجهة المحتكرة للقوة الردعية والعازمة على الدوام أن يكون لها رأي في الشأن السياسي، والتي ما انتقدها أحد إلا وكان عليه تسديد كلفة باهظة.
أتت الاستجابة للمطالب الشعبية الواضحة منذ يوم 16 فبراير متأخرة جدا، وإن لم يكف هذا فقد جاءت بالتقسيط. وفوق هذا كله فإن جهاز بوتفليقة المعقد ما كان ليلينَ ويدفع برئيسه إلى الظل، إن لم يأمر قائد الجيش أحمد قايد صالح الكيان الدستوري الأعلى بإقالة الزعيم السابق.

ونعلم أن الثورة السياسية القاطعة يصعب أن تحقق أهدافها كاملة فيما ينجح السعي لتقسيم الشعب الذي تلهبه عاطفة جائشة وحماسة متأججة جعلت أهل ليبيا يلوحون بأعلام دول كان ولا يزال آخر همها أن يحكم العرب حكامهم. وبين معارضة غير شريفة رضعت من حليب السلطة، وكونتات العسكر الذين لم ينقرضوا، وجمع سائب لم تنظمه كتلة تمثيلية لها معالم تستقي منها سياستها، يتصاعد احتمال تفرق التكتل الشعبي الذي كان منسجما إلى تاريخ تحدث فيه وزير الدفاع بالوكالة عن خارطة طريق، ويبرز خطر تشتت جهود الدفع باتجاه قلب نظام الحكم المتهم بانتهاكات وفساد، خاصة مع ارتفاع أصوات تصف نفسها بالاتزان تقبل بما يمليه الوزير قائد الجيش وتحث الشعب والقوى السياسية على استيعاب وتبني الحلول الممكنة حتى يجري التحول بسلاسة إلى الجمهورية الثانية.

وليست أية ثورة جادة تفرض عليها شروط قبلية من أي طرف كائن، وبشكل خاص إذا كان الطرف عنصرا فاعلا في الاختناق الذي فجر الغضب في البلد المغاربي، وإذا كان يتكسب من استدامة النظام القديم ويتلقى دعما صريحا من قوة ما زالت ترى أن لها مصالح استثنائية في البلاد، وترتبط مع الجزائر بعلاقة بطريركية كولونيالية لا تخفى على المتأملين، والذي يمْثُل آية على كفاية الاستعمار في جمع قواه السرية لضرب الاستقلال في كل بلد نسفا لما تحمل من كلفة للفوز به. فإذا كان ما نخشى فإن الثورة لن تجتاح الجهاز العميق للدولة، ولن تخرج الجزائر من هذه العتمة الكئيبة التي نسجتها الإملاءات الخارجية والتواطؤ الداخلي، كما ينص بيان المنظمة الوطنية للمجاهدين في حرب التحرير. وحتى ينكشف مآل الوضع المأزوم في الجزائر، فإن التقديرات المتفائلة قد لا تصوب على جري العادة إذا ثارت العرب، ونحن لا نعرف عن التعليم بل وعن أي جانب من جوانب الحياة الجزائرية إلا أقل القليل، من أثر عقود من التعتيم والتغييب جعلت الجزائر أكثر البلدان العربية غموضا وانغلاقا، لكن سنفترض أن الحالة الفكرية في البلد لا تتميز عن الواقع المخيب السائد في سائر أنحاء العالم العربي، والذي يلخصه عزوف شامل عن المطالعة، ونظم تعليمية تزداد تعفناً، وانسداد اقتصادي وتذمر ينذر في كل وقت بالانفجار.

يبدو أن السلم العربي، والنظام الراهن الذي شيدته كيفما اتفق انقلابات عسكرية وأحلاف موالاة للغرب، وكذلك العلاقة المتوازنة بين الشعب والحكومة لضمان مستقبل مستدام من التفاهم والاستقرار، يمر الآن في طور "الانهيار" بعد تفسخ العقد الاجتماعي الذي تنازلت بموجبه شعوبنا عن حقوقها المدنية للقيادات العسكرية، مقابل جمع الكتلة العربية وحسم الصراع مع إسرائيل (وإن تكن هذه قسمة ظالمة وتشي بتدني الوعي السياسي للمواطن العربي). وفي بسط بلغ غايته أحاط الدكتور Eugene rogan المحاضر في جامعة أكسفورد وصاحب الكتاب المهم Arabs: a history، في محاضرة بعنوان “the past and future of the Arabs ألقاها على طلاب جامعة New England في مدينة طنجة المغربية بهذه الحالة حيث أشار إلى أن سلسلة الإخفاقات وعلى جميع الأصعدة التي سجلتها الجمهوريات العربية قادت إلى حالة من الاحتقان الخطير في منطقة لم تعرف استقرارا على امتداد تاريخها، وهذا الوضع أخذ يتجلى للباحث ويبدأ عصرا جديدا من تاريخ العالم العربي وصفها قائلا: "اليوم تصطدم الشعوب العربية التي خضعت لمدة عقود لسلطة سياسية عجزت ولكن أيضا لم يغزها ضمير لسد عجزها عن تلبية احتياجات المواطنين والتصدي للفقر الذي ينغص على الشباب حياتهم، ما يجعلنا نعتقد أن العرب، وعلى نحو خاص في الجمهوريات التي لم تمتص الغضب بتجاوز التحديات الاقتصادية، قد دخلوا مرحلة انهيار "النظام الاجتماعي القائم (the social order status quo)، والتي مرت بها أوروبا على طول القرن التاسع عشر، وكان محكوما عليها أن تدفع إلى حربين عالميتين وحرب أهلية ضارية في إسبانيا. ولا شك أن سير العرب نحو التغيير السياسي والنهضة الشاملة سيواجه صعوبات، خاصة وأن العسكريين في أكثر من بلد متورطون في الفساد ومنتهكون لحقوق شعوبهم وهم لن يسمحوا بأن يزول هذا الواقع الذي يخصهم بالامتيازات. هذا هو الحال في كل بلد، ما عدا تونس، التي تخطو بثقة نحو مستقبل الديمقراطية والعدالة والحكم المستنير. إن مطالب شعوب المنطقة بحكومات مسؤولة أمام مواطنيها، وباستفتاء الشارع فيما يخص المصير المشترك للعرب، وتخفيف أثر التدخلات الخارجية والغربية على نحو خاص في صناعة سياسة دولها، هذه المطالب ستظل تلهم الشباب العربي خلال هذا القرن في طريقهم الطويل نحو فرض واقع مغاير تماما، وإن يكن الفراغ الذي تركه سقوط أكثر من نظام استبدادي بعد النجاح الابتدائي لثورات الربيع العربي قد شغره رجال تدرعهم أسلحتهم، وتعوزهم الرؤى والأفكار.