Atwasat

صدارة الشكل في الرؤية الواقعية للأدب

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 07 أبريل 2019, 01:00 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

النظرة الواقعية إلى الأدب ترى، ببساطة، أن الأديب لا يمكن له إلا أن يكون موجودا في مجتمع، وأن هذا المجتمع ذو ملامح ثقافية مميزة، ويجر خلفه تاريخا طويلا متضاربا، ويمر، في فترة حياة الأديب، بمرحلة تاريخية ذات ملامح محددة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وأن الأديب لابد أن يتفاعل ويتأثر، سلبا و إيجابا، بكل ذلك ويصهر ما تشربه وتأثر به وفق مواقفه الشخصية وثقافته وآفاقه العقلية وتركيبته النفسية وآماله وأحلامه وإحباطاته وقدراته الإبداعية، لينتج أعمالا إبداعية جمالية يمكن للناقد الجاد رد بعض عناصرها الأساسية، عبر تحليلات معقدة، إلى مصادرها الموضوعية والذاتية البعيدة. وفي هذا السياق يقول إرنست فشر Ernest

(Ficher (*129:1): "إن هذا الواقع لتحدده جزئيا نظرة الفنان الفردية والاجتماعية. ومجموع الواقع هو حصيلة كل العلاقات بين الذات والموضوع، وهو لا يشكل الماضي وحسب، بل المستقبل أيضا وهو لا يشكل الأحداث فقط، بل التجارب الذاتية، والأحلام، والأحاسيس الداخلية، والانفعالات، والتخيلات أيضا. إن الأثر الفني يجمع بين الواقع والخيال". والواقعية تنظر إلى نفسها بكثير من التواضع. يقول فشر(1: 130): "إن الواقعية بالمعنى الدقيق هي مجرد شكل ممكن للتعبير، لكنها ليست الشكل الوحيد والفريد".

كما أن هم الناقد الواقعي، الحقيقي، ليس هو البحث في نوايا المبدع، أي ما قصد إليه من عمله بشكل واع، وإنما في مدلولات الإبداع. يقول غيورغي غاتشف(2: 263) Georgy Gachev: "ما هو ماثل أمامنا ليس فكرة المؤلف، بل هو مادة تخفي وراءها فكرة لا نراها رؤية مباشرة. إن المضمون (الفكرة) مساو هنا للشكل (للمادة). وعلى العكس، فالشكل (الفكرة الفنية) لا يرى وراء المادة". ويقول جورج لوكاتش (3: 108) Georg Lukacs: "نحن معنيون . . . ، بالطبع، بالمقاصد المتحققة في العمل، والتي ليس من الضروري أن تتطابق مع المقاصد الواعية للكاتب". ويشير لوكاتش (4: 19) إلى حالات مشهورة لأدباء، من مثل بلزاك وستندال وتولستوي، تعارضت فيها دلالات أعمالهم مع آرائهم المعلنة، منهيا الملاحظة بالقول (4: 19-20):

"شخصيات الواقعيين الكبار تعيش حياة مستقلة عن مبدعها منذ بروزها في مخيلة المؤلف: فهي تتطور ضمن اتجاه، وتتجشم مصيرا مقدرا من قبل الديالكتيك الداخلي لوجودها الاجتماعي والسيكولوجي. إن الكاتب القادر على توجيه تطور شخصياته لا يمكن أن يكون واقعيا حقيقيا وكاتبا ذا شأن".

وما يدل على أن الواقعية لا تضع المضمون (بمعنى الفكرة المحددة التي يشترك كافة القراء في فهمها من العمل) موضع الأساس، أنها تفسح المجال أمام التفسيرات المختلفة للعمل الواحد وتعاملها على قدم المساواة. يقول ميخائيل خرابشنكو (5: 164) Mikhail Khrapchenko: "إنه لمن المهم التشديد هنا على أن وجود تفاسير مختلفة للأعمال الفنية لا يعني أن واحدا من هذه التفاسير فقط هو الصحيح"

أما فيما يتعلق بالشكل، فيقول برخت (1: 139): "إنه لمن التفاهة المحض القول بأنه يجب أن لا نعلق أهمية على الشكل وعلى تطور الشكل في الفن. وإذا لم يطرأ على الأدب ابتكارات ذات طبيعة شكلية، فإنه لا يستطيع أن يقدم موضوعات جديدة، أو وجهات نظر جديدة إلى الفئات الجديدة من الجمهور." وفي نفس السياق يقول ميخائيل خرابشنكو (5: 164) إن "خصائص الأعمال الفنية، من مثل[تجسيد] الشخصية، وعمق الاستبصار الفني artistic generalization، تأتي في المقدمة".

نأمل أن نكون قد أوردنا في المناقشة السابقة، اعتمادا على أهم نقاد الواقعية في العالم، الدليل الكافي على مغالطة مسؤولية النظرة الواقعية إلى الأدب على ظاهرة التركيز في فهم الأعمال الأدبية على ما هو آيديلوجي وسياسي ومتعلق بالحياة الشخصية للكاتب، على حساب ما هو جمالي وفني.
وختاما، أعتقد أن ظاهرة رد وقائع النص الأدبي إلى الحياة الخاصة للكاتب التي تتحكم في طريقة تلقي الذهنية العربية العامة للنصوص الأدبية لا علاقة لها بالرؤية الواقعية للأدب، التي هي حديثة الصلة بالأدب العربي. إذ إنها، في ظني، أبعد من ذلك بكثير، ولعل جذرها الأول يرتبط بالقصيدة العربية قبل الإسلام. فمن المعروف أن هذه القصيدة كانت ترتبط بحياة الشاعر وبظروف قبيلته ارتباطا مباشرا. تبدأ القصيدة العربية قبل الإسلام بالتجربة العاطفية المباشرة للشاعر، كذات واقعية متميزة، يشير فيها إلى محبوبته باسمها الصريح، أحيانا، ويستعيد ذكريات حبه معها من خلال زيارة أطلال سكناها. ثم يصف سجاياه وأمجاده وفروسيته إلخ. ثم يمدح أو يهجو ذاكرا، في الغالب، أسماء من يهجوهم أو يمدحهم، وحتى لو لم يذكرهم سيكون من السهولة لسامعيه التعرف إليهم.
وقد ظل هذا التقليد في ربط الشعر بحياة قائله ملازما للشعر العربي بعد الإسلام، رغم التطورات التي مست بنية القصيدة العربية. وكمثال على ذلك تمكن الإشارة إلى النقاشات التي دارت في حينها حول علاقة أشعار عمر بن أبي ربيعة بحياته الفعلية.

وفي العصر الحديث أعيد إنتاج هذا التوجه من خلال المناهج الدراسية حيث يتم الكلام دائما عما "يهدف إليه الشاعر" و ليس عن" الدلالات الممكنة للقصيدة".

ويبدو أن الأوربيين لا يواجهون مثل هذه المشكلة، لأن الشعر لديهم لم ينشأ كفن مستقل ينظم في قصائد تتصل مباشرة بذات قائلها، وإنما نشأ عنصرا تركيبيا في المسرحية والملحمة، وهما فنان يقومان على تعدد الشخصيات وعنصر الدراما، الأمر الذي يمكن ذات المبدع من أن تظل متوارية ويتجه الاهتمام إلى الدلالات الكلية للعمل.

المراجع
* يشير الرقم الأول إلى رقم المرجع في القائمة أدناه، ويشير الرقم الثاني إلى الصفحة المأخوذ عنها.
(1) ارنست فشر. ضرورة الفن. ت: الدكتور ميشال سليمان. دار الحقيقة. بيروت (د. ت)

(2) غيورغي غاتشف. الوعي والفن. ت: د. نوفل نيوف. م. د. سعد مصلوح. سلسلة عالم المعرفة ع 146. المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب- الكويت. 1990

(3) Philip Rice & Patricia Waugh, eds, Modern literary theory. Arnold. London (4th edition) 2001.

(4) جورج لوكاش. بلزاك و الواقعية الفرنسية. ت. محمد علي اليوسفي. المؤسسة العربية للناشرين المتحدين (د. م) 1985.
(5) Mikhail Khrapchenko, Artistic creativity, reality and man. Raduga publishers. Moscow. 1986.