Atwasat

أبريل.. أقسى الشهور

نورالدين خليفة النمر الأحد 07 أبريل 2019, 12:58 مساء
نورالدين خليفة النمر

يتنفس الربيع في ليبيا عادة بمنتصف فبراير، وتذبل أزاهيره بمنتصف أبريل ممهداً للصيف، أشهر نضوج الغلّة.. وغلّة هذا العام 2019 السياسية المرتقبة سيكون موعدها المؤتمر الليبي الجامع والمفترض بمنتصف أبريل. ويبدو أن القوى الدولية الضالعة في الأزمة الليبية حزمت أمرها في هذا الأبريل ليكون أقسى الشهور على الليبين الذين تصدروا المشهد العبثي للتلاعب بالمصير الليبي في "الأرض اليباب" من المجلس الانتقالي 2011 إلى كل الأجسام الانتقالية مؤتمر وطني عام انشعب إلى برلمان ومجلس دولة، توازي في الأشتغال معهما مجلس رئاسي. وجيش ليبي مزعوم في شرق ليبيا أعلن الناطق باسم شعبة إعلامه الحربي، الأربعاء 3 أبريل 2019 تحرك وحداته العسكرية المستهجن أمريكياً وأوروبياً في اتجاه المنطقة الغربية، لتطهيرها حسب إدعائه مما تبقى من الجماعات الإرهابية الموجودة في آخر أوكارها العاصمة طرابلس. أصوات تصرخ في البرّية عبر عنهم إليوت في أرضه الخراب أو اليباب بـ "سأريكم الخوف في قبضة غبار".

أتكلم عن جيلي وأعني نفسي،عندما أكتب عن أقسى الشهور الليبية أبريل التي ابتدأها حدث الشؤم فيما سمي بـ إعلان الثورة الشعبية وإرفاقها بالثقافية 16 أبريل 1973. ثنائية الفوضى: العصف بإدارة الدولة والتجهيل.. بمنع الكتب، وعلى رأس المؤلفين الممنوعين الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، الذي تجرأتُ أنا الطالب بالثانية ثانوي أدبي أن أحاضر في أدبه الملتزم بالحريّة، بمسرح ثانوية علي النجار بطرابلس المدينة التي كانت تتكدس فيها حتى ذاك الشهر، الكتب في قاعات المطالعة العمومية وفي المكتبات وفي الأكشاك وعلى المصاطب وفوق البسطات على أرصفة شوارع العاصمة الرئيسية.

لتأثيره البالغ في الشعرية العربية المعاصرة، كان لي اطلاعٌ مُبكر بترجمات أشعار ت. س. إليوت، وكانت قصيدته الأرض الخراب بالإنكليزية: The Waste Land، نليّبها وقتها لنسقطها على الواقع الثقافي الليبي التائه، فنقرأها أرض الضياع. والقصيدة تُعّد بإجماع القُراء أروعَ القصائد الشعرية المطوّلة على الإطلاق مُكسبة إليوت شهرة عالمية، إبّان نشرها عام 1922 معبرّة عن خيبة أمل جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى وقرفِهِ أو تَقزٌزه، بالمعنى الوجودي السارتري، مصورة عالماً مثقّلاً بالمخاوف والذعر والشهوات العقيمة. كون ينتظر إشارة ما تؤذن بالخلاص أو تعدُ به.

نرحل عام 1974 إلى بنغازي لدراسة الفلسفة بالجامعة، فنوّدع ضياعاً لنلتقي بضياع، قمع تمنّع الطلاب من الالتحاق بالتدريب العسكري الشتوي فبراير 1975، وتداعيات الانقلاب العسكري المضاد بقيادة عضوٍ من مجلس الانقلاب والمُفشّل في أغسطس في العام ذاته. لتتوّج الممانعات بالانتفاضة الطلابية المُطالبة بالحقوق النقابية، في يناير 1976. التي قمعها العسف المضاد في السابع من أبريل في العام ذاته فتتحقق نبؤة الشاعر إليوت بقصيدة الأرض الخراب ـ الضياع ـ التي: تراوح بين الاستبصار والسخرية، وتقتبس رموزاً عابرة للثقافاتٍ وإشاراتٍ ومرموزات متعددة وملتبسة. من عباراتها الشهيرة: المبتدئة بها "أبريل يا أقسى الشهور" والمنتهية، بـ "سأريك الخوف في قبضة من غبار".

في مساء الربيع المغبش بألوان الغروب في 6 أبريل 1976 كنت أسكن المبيت الطُلابي الذي بني على أطلال أشجار زيتون بمزرعة ملكها مستوطن إيطالي في الزمن الاستعماري في الحي الغربي بالفويهات، بمدينة بنغازي، كنت أطل من شرفة سكني إلى العمارة المقابلة، فأري صديقي وجاري في طرابلس يخرج للباحة يتسمّع من راديو ترانزستور على كتفه لخطاب الدكتاتور الليبي ببلدة سلوق في ذكرى شنق المناضل الليبي ضد الاستعمار عمر المختار، ليوجه نداءه لأنصاره الطلاب لتطهير الجامعة ممن أسماهم بفلول اليمين الرجعي المتعفن.. في اليوم الثاني 7 أبريل، ذهبت ضمن عددٍ قليل من الطلاب المتوجسين خيفةً، مما سيحدث ذلك اليوم في الجامعة، وأنا أسير شّاقاً طريقاً من عجاج وشواظ من لهيب في اتجاه المكتبة المركزية، لمحت على العتبات السوداء للمبنى المهيب، شرذمة من الطُلاب الذين لبوا نداء قائدهم مساء 6 أبريل، كانوا يهتفون وقد بدت على وجوههم ملامح القلق المشوب بعنف مكظوم، وكانوا يرفعون قبضاتهم ملوّحين بها في الهواء الساخن، بل إن أحدهم سقط مغمىً عليه من التوتر والإرهاق. وصل موكب من سيارات الرنجروفر العسكرية من وإحداها هبط الدكتاتور يحيط به الحُرّاس من قبيلته على سحن وجوههم تبدو ملامح البداوة والغطرسة، صعد درج المكتبة عبوساً جادّاً فلم يحي كعادته طلابه الذين تقاطروا في اتجاهه.. انتهزت انشغالهم وسرت في اتجاه السيارات وتطلّعت عبر زجاج نافذة سيارته لأرى حقيبة ملابسه من نوع الفليدجا المباع في سوق المُشير الشعبي، يبرز منها طرف جرده نسجِ الربيع معقود بتوكمية، ما أثارني قِدرٌ يماثل قدرا كنا نطبخُ فيه طعام نُزه الربيع يقبع بجانب الحقيبة مسوّدأً بالسخام.

قسوة أبريل تدهش من يقرأ قصيدة إيليوت للمرة الأولى، ولكن المفارقة تظل فاعلة طوال القراءة، إذ إنها تختصر مأساة البشر المقيمين في يباب الأرض الخراب، أرض الانهيارات المادية والمعنوية التي نتجت عن الدمار بسبب العنف مهما كان مصدره. كما أن مفارقتها تتخطى حدود الثقافة والجغرافيا، وإن لم تتخط حدود التاريخ والاجتماع، فنحن قادرون على الرغم من اختلاف مواقعنا وثقافاتنا أن ندرك عمق المأساة التي تجعل الشهر المبشر في أوروبا بالربيع والحياة مؤلمًا إيلام الموت، والعنف، والانتقام من أُفراد أرادوا أن يعبرّوا عن رأيهم بصورة مغايرة قليلاُ لرؤية الدكتاتور المعمية باستبداد الأوتوقراطية، والأُحادية، وشطط الغرابة غير المُبرّر في أن تُفسد ماتوافق عليه الاجتماع الإنساني.

الغبار الذي يتحرّك في أبريل ليبيا غالباً مايكون عجاجاً، ومنذ أبريل 1976صار التباسا بيئياً، مؤشراً وعلامة شؤم لهستيريا العنف، والتصفية والإعدام للأعداء المصطنعين، بغرض رّص صفوف أنصار النظام من القبائل الموالية والمنتفعة، ولجانه الثورية، لتسجيل نقطة متقدمة في طريق اللارجوع عن الانتهاء في نفق الأوتوقراطية الذي أطبق بظلامه المستحيل على آخر نقطة ضوء وأمل. أما في مقلب الشعر بنصوصه الكبرى كإلياذة هوميروس وإنيادة فرجيل وشاهنامة الفردوسي، ومعلقات الجاهلية العربية في الحرب التي نفسر بها أحيانا أحداث التاريخ والسياسة. فإن مفارقات الغموض المزعوم في الأرض الخراب، وتغير موضع السارد بشكلٍ مفاجئ، صيرت قصيدة إيليوت واحدة من علامات الأدب الحديث. وأبرز مفارقاتها تبدّل طقس الطبيعة، كما يجليه هذا المقطع الذي نُرفق رموزه بمفرادات ليبية، والمبتدىء بـ "أبريل أقسى الشهور، يخُرج الليلك (البقرعون) من الأرض الموات، يمزج الذكرى بالرغبة (...) يا من كنت معي على السفائن ـ سفائن الصحراء ـ"تلك الجثة التي زرعتها السنة الماضية في جنانك ،"هل بدأت تورق؟ هل ستزهر هذه السنة؟"أم أن ـ العجاج ـ المباغت قد أقض مضجعها؟" ابعد الكلب عنها،.. صديق البشر".

حلّقت ليلة الغارة الأميركية 17 أبريل 1986، على مرأى من أعيننا الطائرات العملاقة. إذ كان حيّنا السكني بين الموقعين المقصوفين مبنى الأمن الخارجي ببن عاشور وثكنة باب العزيزية حيث يربض مسكن الدكتاتور. كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، السماء الصاحية منارة بكشافات الأضواء المتبقية من احتفالات عيد الجلاء في 28 مارس. كنت ليلتها مازلت ساهراً أقرأ في رواية دستويفسكي: "الشياطين" كنت معطلاً عن عملي في المؤسسة التي تسمّت وقتها (شعبة) الصحافة المعطلة، مجبراً على التحوّل إلى معلم مدرسة في بلدية سوف الجين. واستثناءً لمعتاد أبريل الليبي أقسى الشهور لم يصحبه عام الغارة عجاج يقبض على الأنفس، ولاصهد ينفخ من جحيم الصحراء.